اللغة و الأدب و الشعرسيرة أهل البيت (ع)في رحاب نهج البلاغةمقالاتمنوعات

أصناف الناس في نهج البلاغة

باسم شعلان خضير الصالحي

استطاع أن يصنف الإمام علي(عليه السلام) رجل الإنسانية الأول – كما وصفه جورج جرداق –المنظومة البشرية بألوانها وأطيافها واتجاهاتها المختلفة إلى أصناف ثلاثة في إحدى روائع الحكم في نهج البلاغة إذ قال(عليه السلام): {الناس ثلاثة: فعالم رباني ومتعلم على سبيل النجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق)، وقد ذكر محمد عبده في شرحه للنهج: العالم الرباني المتأله العارف بالله المنسوب إلى الرب.
وفي خطبة أخرى من خطب النهج ايضا ورد ذكر الرباني إذ قال(عليه السلام) في مورد يصف فيه الفتن في آخر الزمان: (فاتبعوا ربانيكم…) اي العارفين بالله المخلصين الذين لا يرجون من الدنيا ومن الحكام شيئا، المنقطعين إلى الله سبحانه.
ويؤكد الإمام(عليه السلام) على العلماء العارفين لأنهم اشد الناس مراقبة لأنفسهم وأكثر الناس ابتعاداً عن الهوى واتباعه، وأعدل الناس في الحكم ولأنهم اصحاب إشراقات نورانية، لا يحابون أحداً على حساب الحق ولا يمارون بجدل عقيم لا طائل منه. فهؤلاء العلماء هم أبهى تجلّ للرحمة الإلهية واوضح الطاف الخالق بالمخلوقين، إذ يتم الإلتجاء إليهم في أوقات الفتن والهروب إليهم عند المحن، وهؤلاء ورثة الأنبياء حقا وحملة الرسالات الإلهية يقينا وصدقا، هذا هو الصنف الأول من الناس وهم أولى الناس بالاتباع وهم قلة وأندر من الكبريت الأحمر.
أمّا الصنف الثاني فهو المتعلم على سبيل النجاة، والمتعلمون الذين يسيرون على طريق النجاة أنواع، فمنهم من يصل وينجو ومنهم من ينقطع ولا ينجو، فكثير من المتعلمين تعلموا العلم ليماروا به العلماء لا لأجل التعلم وأخذ العبرة والفائدة، ومن المتعلمين من يخالجه الغرور وهو ليس على شيء، فيرى نفسه أكبر بكثير من حجمه الحقيقي، وبذلك ينقطع عن مواصلة السير في سبيل النجاة، ومنهم من تستقطبه الدنيا بزخارفها ولما يكمل الوصول فيضيع في شهوات الدنيا من حب للشهرة والمال ولا يوفق لما كان يصبو له من مقام رفيع ومنزل عظيم فيما لو أتمّ طريقه نحو النجاة فلا ينجو، ومنهم من يكون علمه وبالا عليه فتحول نعمة العلم والتعلم إلى نقمة الجهل والتكبر، فرأس مال العلم هو التقوى ولا فائدة حقيقة مرجوة من دون التقوى فهذا إبليس على الرغم من ما كان يتمتع به من علم إلا أنّ علمه لم يغن عنه شيئاً، ولذا قيل: (لو كان للعلم غير التقى شرفا لكان افضل خلق الله إبليسا).
ومنهم من يسير سيرا حثيثا نحو النجاة فلا يشغله أمر مما ذكرناه ويقاوم كل الإغراءات ويحارب كل همزات الشياطين ونزعاتهم وكل نفحات النفس الأمارة بالسوء، وهؤلاء هم من يصلون إلى النجاة ويحملون مشعل العلم، ويخلفون الصنف الأول، وهؤلاء -أي الصنف الثاني- قلة وإن كانوا أكثر من الصنف الأول.
والصنف الثالث والأخير هم الأغلبية الساحقة مع شديد الأسف وهم (الهمج) كما جاء في شرح النهج الحمقى من الناس أي الذين يغلب غضبهم عقلهم وتغلب شدة بأسهم حصانة تعقلهم، فهم في حالة غضبهم يكونون أداة بيد الشيطان يحركها كيف يشاء، (والرعاع) الأحداث الطغام الذين لا منزلة لهم في الناس الذين لا يقيمون وزنا لخلق ولا لعلم ويتبعون كل ناعق فلا يميزون بين داعي الحق وناعق الباطل، وهذا لعمري حال كثير من الناس في المجتمع، ليس لهم من رادع خلقي أو ديني أو عرقي، فما أن يسمعوا كلمة إلا اتبعوها من غير أن يميزوا أن كانت كلمة حق يراد بها حق أو كلمة حقا يراد بها باطلا، فالمهم لديهم أن تكون هناك دعوة لأمر ما يسيرون معها من دون تدبر أو تحليل لتلك الدعوة.
ثم يفصّل الإمام(عليه السلام) صفاتهم أي الهمج الرعاع فيقول: (يميلون مع كل ريح) أنّهم لا يميزون ما إذا كانت هذه ريح عاتية تريد تمزيق المجتمعات أو ريح طيبة تريد بناء الإنسان والمجتمع على أكمل وجه نحو الكمال، ويعلل الإمام(عليه السلام) ذلك بسببين: أولا لأنهم لم يستضيئوا بنور العلم فبقاؤهم في ظلام الجهل أولى بهم للسير خلف كل ناعق بلا معرفة.
ثانياً: لأنهم لم يلجأوا إلى ركن وثيق، والركن الوثيق مبين في ذات التصنيف، يعني الصنف الأول وهم العلماء والربانيون الذين ما أن تمسك بهم أحد حتى أبعدوه عن ظلام الجهل وعن أتباع كل ناعق، وهذا يوضح أهمية ومركزية الصنف الأول -أي العلماء الربانيون- في المجتمعات الإنسانية، لأنهم البوصلة التي تشير دائماً إلى الحق وطريقه الذي يوصل إليه باقل المخاطر ومن دون تكلف المصاعب، وبهذا نجد الإمام(ع) قد صنف الناس بكل دياناتهم ومذاهبهم والوانهم وأطيافهم إلى هذه الأصناف الثلاثة.
فحري بمن عرف هذه الأصناف أن يكون من الصنف الثاني ويحث الخطى لكي يبقى سائراً على سبيل النجاة، ويبتعد عن الصنف الثالث (الهمج الرعاع) لأنهم مشرفون على الهلاك والعياذ بالله، ولو جاهد نفسه وكان من الصنف الثاني فالسعادة الدائمة، والأولى أن يصل هذا التصنيف لكل الناس ليعرفوا مكانتهم من أي صنف ولينقذوا أنفسهم ويتبعوا ربانيهم.

نشرت في الولاية العدد 115

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى