منوعات

أدب تعامل الانبياء مع اقوامهم في ضوء القصص القرآني … نوح “عليه السلام” مع قومه انموذجا .

ان انبياء الله الاعظام هم خير خلق الله تعالى، وعلى نهجهم الطاهر يسير المؤمنون، ليستقوا من ادبهم الجم مع الله ” عزوجل” ثم مع أقوامهم، وقد ظهر في قصص الانبياء كثير من آداب تعامل الداعية مع المدعو. نبينها في قصة النبي نوح “عليه السلام ” .

تعرض آيات قصة نوح “عليه السلام” صورة من صور الجهد والعناء، المرهق والصبر، والاصرار من جانب الرسل “صلوات الله عليهم ، لهداية هذه البشرية الضالة العنيدة العصية الجامحة، وهم لا مصلحة لهم في القضية ولا اجر يتقاضونه من المهتدين على الهداية. ولذلك قد سلك النبي نوح “عليه السلام” آداباً شتى في دعوته مع قومه منها على سبيل المثال لا الحصر :

  1. التدرج في الدعوة :

مكث النبي نوح “عليه السلام” في قومه الف سنه الا خمسين عاماً، بذل فيها كل جهده في محاولة اقناع قومة المكذبين بضرورة عبادة الله وحده، وترك عبادة تلك الاصنام التي لا تنفع ولا تضر، وانتهج فيها منهج التدرج في الدعوة، اذ يقول الله تعالى على لسان النبي نوح “عليه السلام”:﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا[1]، ثم يقول ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا [2]، ثم يقول: ﴿إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾[3]. حيث تظهر الآيات تدرجاً في اسلوب دعوة النبي نوح “عليه السلام”، فقد بدأ بالدعوة سراً في الليل والنهار، ثم انتقل الى الدعوة الجهرية بمسمع منهم كلهم، ثم دعاهم مرّات أخرى على اي وجه أمكنه ذلك سراً وجهراً بكل باب ظن أن يحصل منه المقصود، اي انه جمع بين الجهر والاسرار وهذه غاية الجد في النصيحة وتبليغ الرسالة[4].

  1. الترغيب والترهيب

عمل النبي نوح “عليه السلام” بين اسلوبي الترغيب والترهيب لعل أيا منهما يكون سبباً لدخول أمته في دين الله ، كما يقول الله “عزوجل، على لسان نوح “عليه السلام”: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ*أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ *يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى  إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ  لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[5] ، اي ان النبي نوح قال لقومه مرهباً لهم من عذاب الله: يا قوم اني لكم نذير، انذركم عذاب الله، فاحذروه ان ينزل بكم على كفركم به، واعبدوا الله واتقوه ، ثم رغبهم بعبادة الله تعالى قائلا: يصفح عنكم ويغفر ويؤخر في آجالكم فلا يهلككم بالعذاب، ثم يعود لترهيبهم قائلاً: ان اجل الله الذي قد كتبه على خلقه في ام الكتاب اذا جاء عنده لا يؤخر عن ميقاته[6]، ثم يعود ليسلك سبيل الترغيب في الايمان ، اذ قال تعالى :﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا *وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾[7] يبدو ان قول النبي نوح لقومه ﴿ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ فيه ترغيب في التوبة، ولما علم “عليه السلام” حبهم للغيث والمال والولد في المدة التي اصابهم فيها الجدب وعقمت أرحام نسائهم بسبب تكذيبهم لنبيهم، احسن استغلال هذه الحالة الصعبة التي يمر بها قومه ووضح لهم ان منجاهم هو الايمان بالله ، ففيه ارسال السماء بالمطر والرزق بالمال والولد[8] .

  1. اقناع العقل بعرض الحقائق الكونية في الانفس والآفاق

استخدم النبي نوح “عليه السلام” هذا الاسلوب المنطقي قائلاً: كيف يتصور ان يكفر العاقل برب خلق الانسان أطوارا حتى كل بهذا الشكل المتقن؟ وخلق السموات السبع وجعل فيهن القمر والشمس، وبسط الأرض ليسعى الناس في مصالحهم ، فالقادر على هذا الخلق البديع قادر بالضرورة على احيائكم بعد الموت وحسابكم على الكفر والتكذيب ، قال  الله تعالى على لسان نوح “عليه السلام” : ﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا*وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا  *أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا*وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا*وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا *ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا* وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا*لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا[9] . توضح الآيات الكريمة ان نوحاً “عليه السلام” تعجب من عدم تعظيم قومه لله تعالى رغم انه خلقهم اطواراً مختلفة فكانوا نطفة في الارحام ، ثم علقةً، ثم مُضغةً، ثم عظاماً، ثم كسا العظام لحماً، ثم انشأهم خلقاً آخر، ثم نبههم الى هذا الكون العجيب وهذه السماوات واتقان صُنعها، اذ جعلَ القمر فيها يشعُ بالنور، وجعلَ الشمسَ كالسراجِ تُولّد الضوء بشكل مستمر عجيب دون توقف[10] .

  1. الحرص على حماية المؤمنين والأجيال اللاحقة من الاضلال

كان هدف النبي نوح “عليه السلام” هو حماية من آمن من قومه من اضلال الكافرين، ليس هذا فحسب ، فكما خشي على قومة الكفر والعذاب المترتب عليه في الآخرة ، خشى على الاجيال التالية ان يكفروا ويحرموا من رحمة الله متأثرين بمن كفر قبلهم ممن عاشوا مع النبي نوح “عليه السلام” ، ونلمس في هذا الموقف أدب الحرص على مصالح المدعوين وبذل الجهد في حمايتهم من الإضلال، وفي ذلك يقول الله تعالى : ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا *إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا[11] يبدو من الآية ان الارض تحتاج الى غسل يطهر وجهها من الشر الخاص الذي انتهى اليه القوم في زمانه، وأحياناً لا يصلح اي علاج  آخر غير تطهير وجه الأرض من الظالمين ، لأن وجودهم يجمد الدعوة الى الله نهائياً ويحول دون الوصول الى قلوب الآخرين، وهذه الحقيقة التي عبر عنها النبي نوح  وهو يطلب من ربه الاجهاز على اولئك الظالمين بحيث لا يبقى منهم صاحب ديار، وفي موضع اخر يؤكد الله تعالى عن لسان نوح “عليه السلام”﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ[12] .

اذ يقول محمد الطاهر في كتابه الموسوم التحرير والتنوير : “ان كلام نوح دلالة على ان المصلحين يهتمون بإصلاح جيلهم الحاضر ولا يهملون تأسيس اسس اصلاح الأجيال الآتية، اذ الأجيال كلها سواء في نظرهم الاصلاحي[13] .

وتستنتج من ذلك ان النبي نوح “عليه السلام” اتبع اسلوب الترغيب والترهيب وعمل الى استدراج القلوب واقناع العقول بالمناظرة وعرض الحقائق الكونية، كما تخلق النبي نوح بالسلوك القويم والسيرة الطيبة، حتى تكون الاستجابة للدعوة اقرب ، ولم يكتفي عن تذكير المدعوين واشعارهم بفداحة ذنوبهم ومكافحة فسادهم، بل عمل على اظهاره للخلق الصفح وعلمهم التواضع.  

جعفر رمضان


[1] سورة نوح ، الآية 5

[2] سورة نوح، الآية 8.

[3] سورة نوح ، الآية 9.

[4]  عبد الرحمن ناصر السعدي،  تسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (مؤسسة الرسالة،2000)، ص823

[5] سورة نوح ، الآية 2-4.

[6] محمد بن جرير الطبري ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، تحقيق: أحمد محمد شاكر،(مؤسسة الرسالة،2000) ، 23، ص627-631.

[7] سورة نوح ، الآية 10-12.

[8] للمزيد من التفاصيل ينظر . أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي مجمع البيان في تفسير القرآن ،(بيروت: دار المرتضى، 2006)؛ ابو عبد الله محمد بن احمد بن ابي بكر، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق هشام سمير البخاري،(الرياض: دار عالم الكتب،2003) ، ج18، ص302.

[9] سورة نوح، الآية 13-20.

[10]  للمزيد من الاطلاع على تفسير الآيات ينظر. عبد الله محمود ، مدارك التنزيل وحقائق التأويل، تحقيق مروان محمد الشعار، (بيروت: دار النفائس،2005)، ج4، ص22.

[11] سورة نوح ، الآية 26-27.

[12] سورة القمر، الآية 10.

[13] محمد الطاهر عاشور ،التحرير والتنوير، (تونس: دار سحون، 1997) ، ص2

المصدر:www.imamhussain.org

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى