مقالات

المقصود بأولي الأمر في القرآن الكريم (الحلقة الثانية)

بسم اللّٰه الرَّحمٰن الرَّحيم

بقلم: زكريَّا بركات
محرم 1444 هـ/
أغسطس 2022م


الفائدة الثالثة (الدلالة على أنَّ أولي الأمر معصومون) :

يمكن التمسُّك بإطلاق إيجاب الطاعة في الآية 59 من سورة النساء لإثبات عصمة أولي الأمر، وهو ما صنعه جماعة من المفسِّرين كالعلَّامة الطباطبائي في تفسير الميزان، كما يُمكن التمسُّك بتفريع العلم على الردِّ في الجملة الشَّرطيَّة من الآية 83 في السورة نفسها لإثبات العصمة، وهو ما صنعه شيخ الطائفة في تفسير التِّبيان. وإليكَ بيانُ ذلك:

أمَّا التمسُّك بالإطلاق في الآية 59 فبيانه أنَّ إيجاب طاعة أولي الأمر ليس مقيَّداً بشيء، بمعنى أنَّ طاعتهم واجبة بصورة مطلقة من دون أي قيد أو شرط، وهذا الإطلاق مؤكَّدٌ من خلال اقتران إيجاب طاعتهم بطاعة الله وطاعة رسوله بواو العطف، ممَّا يدلُّ على عصمة أولي الأمر، بمعنى أنَّ أوامرهم وتوجيهاتهم والتعاليم الصادرة عنهم مَصونة من الزلل والخلل والخطأ كما هي الأوامر والتوجيهات والتعاليم الصادرةُ عن الله ورسوله، ولو لم تكن كذلك لما صحَّ إطلاقُ إيجاب طاعتهم مع عطفه على إيجاب طاعة الله وطاعة رسوله.

وقد اعترف إمامُ أهل السنَّة الفخر الرَّازي (ت 606 هـ) في تفسيره “مفاتيح الغيب” 10 : 113 (ط: دار إحياء التراث ـ بيروت) بأنَّ الآية دالَّة على عصمة أولي الأمر، كما وافق على أنَّ الاقتران والعطف مؤيِّد للدلالة على العصمة فقال في تفسيره 10 : 114 : “أدخل الرَّسولَ وأُولي الأمرِ في لفظٍ واحدٍ وهو قَولُه: أَطيعُوا اللهَ وأَطِيعوا الرَّسولَ وأُولي الأمرِ، فكانَ حملُ أُولي الأمرِ الَّذي هو مقرونٌ بالرَّسولِ على المعصومِ أَولى”.

وقد وافقه جماعة من علماء أهل السنَّة على ذلك، منهم: ابنُ عادل الحنبلي (متوفى في حدود 775 هـ) في تفسيره “اللُّباب” 6 : 446 (ط: دار الكتب العلمية ـ بيروت) .

ومنهم النيسابوري (ت 850 هـ) في تفسيره “غرائب القرآن” 2 : 434 (ط: دار الكتب العلمية ـ بيروت) .

وهو الظاهر من تفسير المنار 5 : 147 (ط: الهيئة المصرية العامَّة) ـ أيضاً ـ حيث قال: “فأهلُ الحلِّ والعَقدِ من المؤمنين إذا أجمعوا على أمرٍ من مصالحِ الأُمَّةِ ليس فيه نصٌّ عن الشَّارعِ ـ مختارين في ذلك غيرَ مُكْرَهين عليه بقُوَّةِ أحدٍ ولا نفوذِه ـ فطاعتُهم واجبةٌ، ويصحُّ أن يقال: هم معصومون في هذا الإجماعِ؛ ولذلك أُطْلِقَ الأمرُ بطاعتِهم بلا شرطٍ”.

وتتأكَّد لنا صحَّة دلالة الإطلاق على العصمة من خلال التأمُّل في الدور الخطير للعلماء والأئمَّة غير المعصومين في التاريخ البشري، حتَّى رُوي عن عمر بن الخطاب أنه قال ـ في ذكر ما يَهدِمُ الإسلامَ ـ : “يَهْدِمُهُ زَلَّةُ العالِمِ وجدالُ المنافقِ بالكتابِ وحُكمُ الأئِمَّةِ المُضلِّين” [صحَّحه الألباني في مشكاة المصابيح برقم 269] ، واعترف ابنُ تيميَّة الحرَّاني أنَّ الفساد يقع من جهة الأمراء والعلماء، قائلاً: “وكذلك من جهتهم يقع الفسادُ” [مجموع فتاوى ابن تيمية 10 : 224 التوفيقيَّة] ، فكيف يمكن ـ مع هذا ـ أن يُؤمرَ العبادُ بطاعة أولي الأمر (لو لم يكونوا معصومين) بغير قيد ولا شرط وبالاقتران مع طاعة النبيِّ المعصوم (ص) وطاعة أوامر الله المعصومة؟.

إلَّا أنَّ الفخر الرازي حين عجز عن تحديد مصداق أولي الأمر والوصول إلى الإمام المعصوم، تصوَّر أنَّ هذا العجز دليلٌ على صحَّة حمل أولي الأمر على إجماع الأمَّة..! ولم ينتبه إلى أنَّ العجز عن الوصول هو بسبب بُعده ومفارقته لمدرسة أهل البيت عليهم السلام، ممَّا أوجب حرمانه وحرمان غيره من معرفة المعصومين، ثم أدَّى إلى غياب المعصوم لعدم الناصر والمعين. وفي كتاب أصول الفقه المقارن للسيد محمَّد تقي الحكيم (ص155 ـ بحث سُنَّة أهل البيت) إجاباتٌ دقيقة أخرى على شبهات الفخر الرازي في المقام.

ولمَّا كان ابنُ تيمية معتقداً بأنَّ المقصود من أولي الأمر هم العلماء والأمراء غير المعصومين، ارتأى ضرورة التقييد، فقال في مجموع الفتاوى: “فليس لأحدٍ إذا أمَرَهُ الرَّسولُ بأمرٍ أن ينظُرَ هل أمَرَ اللهُ به أم لا، بخلافِ أُولي الأمرِ فإنَّهم قد يأمُرُونَ بمعصيةِ اللهِ، فليس كلُّ من أطاعهم مُطيعاً لِله، بل لا بُدَّ فيما يأمرونَ بِهِ أن يُعْلَمَ أنَّهُ ليس معصيةً لِلهِ ويُنْظَرَ هل أمرَ اللهُ به أم لا، سواءٌ كانَ أُولي الأمرِ من العلماءِ أو الأُمراءِ، ويدخل في هذا تقليدُ العلماءِ وطاعةُ أُمراءِ السَّرايا وغير ذلك” [مجموع الفتاوى 10 : 168 التوفيقية] .

وفات ابنَ تيمية أنَّ إيجاب الطاعة لأولي الأمر في الآية مطلق، لم يُقيَّد بشيء، ولو صحَّ ما تصوَّره ابنُ تيمية لكان الإطلاقُ خطأ بلاغيًّا في القرآن الكريم.

وممَّا ذُكر تعرف أنَّ علماء مدرسة الخلفاء بين قائل بعدم عصمة أولي الأمر اضطرَّ إلى التصدِّي لبيان القيود والشروط غير المذكورة في الآية الكريمة، وصنيعه يستلزم القول بقصور البيان القرآني، وبين قائل بعصمتهم عجز عن تحديدهم والوصول إليهم فاضطرَّ إلى القول بأنَّ المقصود منهم جماعةٌ من العلماء أو الأمراء بشرط إجماعهم.

وأمَّا التمسُّك بالتفريع في الآية 83 من سورة النساء لإثبات عصمة أولي الأمر، فبيانه أنَّ المفهوم من الآية أنَّ الردَّ إلى أولي الأمر يوجب تحقُّق العلم (عندهم أو عند غيرهم) بمقتضى الربط بين الشرط (الردُّ) والجواب (حصول العلم) ، وذلك في الجملة الشَّرطيَّة من الآية الكريمة: (ولو ردُّوه… لَعَلِمَهُ) ، ممَّا يعني وجود ارتباط وتلازم بين الرَّدِّ والعلم، والأمرُ الوحيد الذي يمكننا من خلاله تعقُّل هذا الارتباط والتلازُم هي العصمة، وإلَّا فلا موجب لهذا التلازم، فلو أنَّ أولي الأمر لم يكونوا معصومين لكان بالإمكان أن يكون الردُّ موجباً تارةً للعلم وتارةً أخرى للظنِّ وتارةً أُخرى للجهل.. فالتلازم واضح بين الردِّ والعلم بدلالة الآية، وهذا التلازم لا يمكن تبريره إلَّا على أساس العصمة. فيتَّضح من ذلك أنَّ أولي الأمر علماء معصومون في علمهم، بمعنى أنَّ تصوُّراتهم واقعيَّة وتصديقاتهم جزميَّة مطابقةٌ للواقع دائماً.

نكتفي بهذا القدر لهذه الحلقة، وتليها حلقة ثالثة إن شاء الله تعالى.

والحمدُ للّٰه ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى