نور العترة

الحسين(ع) مع الحر بن يزيد الرياحي…

بينما كان الإمام (عليه السّلام) يسير بمَنْ بقي معه من أصحابه المخلصين وأهل بيته وبني عمومته إذا بهم يرون أشباحاً مقبلة من مسافات بعيدة، وظنّها بعضهم أشباح نخيل، ولكن لم يكن الذي شاهدوه أشجار النخيل ولكنّها جيوش زاحفة، فبعد قليل تبيّن لهم أنّ تلك الأشباح المقبلة عليهم هي ألف فارس من جند ابن زياد بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي، أرسلها ابن زياد لتقطع الطريق على الحسين (عليه السّلام) وتسيّره كما يريد، ولمّا اقتربوا من ركب الحسين(عليه السّلام) سألهم عن المهمّة التي جاؤوا من أجلها، فقال لهم الحرّ: لقد اُمرنا أن نلازمكم، ونجعجع بكم حتّى ننزلكم على غير ماء ولا حصن، أو تدخلوا في حكم يزيد وعبيد الله بن زياد1.

وجرى حوار طويل بين الطرفين وجدال لم يتوصّلا فيه إلى نتيجة حاسمة ترضي الطرفين، فلقد أبى الحرّ أن يمكِّنَ الحسينَ من الرجوع إلى الحجاز، أو سلوك الطريق المؤدّية إلى الكوفة، وأبى الحسين (عليه السّلام) أن يستسلم ليزيد وابن زياد2.
وكان ممّا قاله الحسين (عليه السّلام) وهو واقف بينهم خطيباً: “أيّها النّاس، إنّي لم آتِكم حتّى أتتني كتبُكم وقدمِتْ عليّ رُسُلُكُم أنِ اقدم علينا؛ فإنّه ليس لنا إمام، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهُدى والحقِّ. فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما أطمئنُ إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين اِنْصَرَفْتُ عنكم إلى المكانِ الذي جئتُ مِنه إليكم”.
فسكتوا عنه ولم يتكلّم أحد منهم بكلمة، فقال للحرّ: “أتريد أن تصلّيَ بأصحابك؟”.
قال: لا، بل تُصلّي أنت ونصلّي بصلاتك، فصلّى بهم الحسين (عليه السّلام)3.
وبعد أن صلّى الإمام (عليه السّلام) بهم العصر خاطبهم بقوله: “أمّا بعد، فإنّكم إنْ تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله تكونوا أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمّد، وأولى بولاية هذا الأَمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرينَ فيكم بالجوْرِ والعدوانِ، وإنْ أبيتم إلاّ الكراهية لنا والجهل بحقّنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم، وقدمت به عليَّ رُسُلُكُم انصرفت عنكم”4.
فقال له الحرّ: أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر.
فقال الحسين (عليه السّلام) لبعض أصحابه: “يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللّذين فيهما كتبهم إليَّ”.
فأخرجَ خرجين مملوءين صُحُفاً فنُثرت بين يديه. فقال له الحرّ: إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أُمِرْنا إذا نحن لقيناك ألاّ نفارقك حتّى نُقدِمَكَ الكوفة على عبيد الله.
فقال له الحسين (عليه السّلام): “الموت أدنى إليك من ذلك”. ثمّ قال لأَصحابه: “قوموا فاركبوا”. فركبوا وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: “انصرفوا”. فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين (عليه السّلام) للحرّ: “ثَكَلَتْكَ اُمُّك! ما تريد؟!”.
قال له الحرّ: أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر اُمّه بالثكل كائناً مَنْ كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر اُمِّك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه5.

النزول في أرض الميعاد

أقلقت الأخبار عن تقدّم الإمام الحسين (عليه السّلام) نحو الكوفة ابن زياد وأعوان السّلطة الاُموية، فأسرع بكتابه إلى الحرّ بن يزيد الرياحي يطلب فيه أن لا يسمح بتقدّم الإمام حتّى تلتحق به جيوش بني اُميّة، وتلتقي به بعيداً عن الكوفة؛ خشية أن يستنهض أهلها ثانية، وليستغلّ ابن زياد ظروف المنطقه الصّعبة للضغط على الإمام (عليه السّلام) واستسلامه.

وبغباء المنحرف السّاذج، وجهالته ردّ حامل كتاب ابن زياد على أحد أصحاب الحسين (عليه السّلام) -يزيد بن مهاجر- مدافعاً عمّا جاء به قائلاً: أطعت إمامي ووفيت ببيعتي. فقال له ابن مهاجر: بل عصيت ربّك وأطعت إمامك في هلاك نفسك، وكسبت العار والنار، وبئس الإمام إمامك، قال الله تعالى:﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ 6.
وحالت جنود ابن زياد قافلة الإمام الحسين (عليه السّلام) دون الاستمرار في المسير، فقد منعهم جيش الحرّ بن يزيد، وأصرّوا على أن يدفعوا الإمام (عليه السّلام) نحو عراء لا خضرة فيها ولا ماء.
وكان زهير بن القين متحمّساً لقتال جيش الحرّ قبل أن يأتيهم المدد من قوات بني اُميّة، فقال للحسين (عليه السّلام): «إنّ قتالهم الآن أيسر علينا عن قتال غيرهم »، ولكنّ الإمام (عليه السّلام) رفض هذا الرأي؛ لأنّ القوم لم يعلنوا حرباً عليه بعد، وما كان ذلك الموقف النبيل إلاّ لما كان يحمله الإمام من روح تتسع للاُمّة جمعاء، وأيضاً لعظيم رسالته التي يدافع عنها وقِيَمهِ التي كان يسعى إلى بنائها في الاُمّة رغم أنّها بدت تظهر العداء سافراً ضدّه، فقال (عليه السّلام): “ما كنت لأبدأهم بقتال”.
وكان نزول الإمام في كربلاء في يوم الخميس الثاني من محرّم سنة إحدى وستين7، ثمّ اقترح زهير على الإمام (عليه السّلام) أن يلجأوا إلى منطقة قريبة يبدو فيها بعض ملامح التحصين لمواجهة الجيش الاُموي لو نشبت المعركة.
وسأل الإمام (عليه السّلام) عن اسم هذه المنطقة فقيل له: كربلاء، عندها دمعت عيناه وهو يقول: “اللهمّ أعوذ بك من الكرب والبلاء”.
ثمّ قال: “ذات كرب وبلاء، ولقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفّين وأنا معه فوقف، فسأل عنه فاُخبر باسمه فقال: ها هنا محطّ ركابهم، وها هنا مهراق دمائهم. فسُئل عن ذلك فقال: ثقل لآل بيت محمّد ينزلون ها هنا”8.
وقبض الإمام الحسين (عليه السّلام) قبضةً من ترابها فشمّها وقال: “هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله أننّي اُقتل فيها، أخبرتني اُمّ سلمة”9.
فأمر الإمام (عليه السّلام) بالنزول ونصب الخيام إلى حين يتّضح الأمر، ويتّخذ القرار النهائي لمسيرته.
وفي تلك الأثناء خرج عمر بن سعد من الكوفة في جيش قدّرته بعض المصادر بثلاثين ألفاً، وبعضها بأكثر من ذلك، وفي رواية ثالثة: إنّ ابن زياد قد استنفر الكوفة وضواحيها لحرب الحسين، وتوعّد كلّ مَنْ يقدر على حمل السّلاح بالقتل والحبس إن لم يخرجْ لحرب الحسين.
وكان من نتائج ذلك أن امتلأت السّجونُ بالشّيعة واختفى منهم جماعة، وخرج مَنْ خرج لحرب الحسين من أنصار الاُمويّين، وأهل الأطماع والمصالح الذين كانوا يشكّلون أكبر عدد في الكوفة، أمّا رواية الخمسة آلاف مقاتل التي تبنّاها بعض المؤرّخين فمع أنّها من المراسيل، لا تؤيّدها الظروف والملابسات التي تحيط بحادث من هذا النوع الذي لا يمكن لأحد أن يقدِمَ عليه إلاّ بعد أن يُعِدَّ العُدَّة لكلّ الاحتمالات، ويتّخذ جميعاً لاحتياطات، وبخاصّة إذا كان خبيراً بأهل الكوفة وتقلّباتهم وعدم ثباتهم على أمر من الأُمور10.
وتوالت قطعات الجيش الأموي بزعامة عمر بن سعد فأحاطت بالحسين (عليه السّلام) وأهله وأصحابه، وحالت بينهم وبين ماء الفرات القريب منهم، وقد جرت مفاوضات محدودة بين عمر بن سعد والإمام الحسين (عليه السّلام) أوضح فيها الإمام (عليه السّلام) لهم عن موقفه وموقفهم ودعوتهم له، وألقى عليهم كلّ الحجج في سبيل إظهار الحقّ، وبيّن لهم سوء فعلهم هذا وغدرهم ونقضهم للوعود التي وعدوه بها من نصرته وتأييده، وضرورة القضاء على الفساد.
ولكن عمر بن سعد كان أداة الشرّ المنفّذة للفساد والظلم الاُموي، فكانت غاية همّته هي تنفيذ أوامر ابن زياد بانتزاع البيعة من الإمام (عليه السّلام) ليزيد أو قتله وأهل بيته وأصحابه11، متجاهلاً حرمة البيت النبوي، بل وحاقداً عليه كما جاء في رسالته لعمر: أن حُلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يذوقوا قطرة كما صُنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان12 13.

  • 1. تأريخ الطبري 3 / 305، ومقتل الحسين – للخوارزمي 1 / 229، والبداية والنهاية 8 / 186، وبحار الأنوار 44 / 375.
  • 2. تأريخ الطبري 3 / 305، مقتل الحسين (عليه السّلام) – للخوارزمي 1 / 229، البداية والنهاية 8 / 186، بحار الأنوار 44 / 375.
  • 3. الإرشاد 2 / 79، والفتوح – لابن أعثم 5 / 85، ومقتل الحسين – للخوارزمي 1 / 596.
  • 4. الفتوح – لابن أعثم 5 / 87، وتأريخ الطبري 3 / 206، ومقتل الحسين – للخوارزمي 1 / 332.
  • 5. الإرشاد 2 / 80، تاريخ الطبري 3 /306.
  • 6. القران الكريم: سورة القصص (28)، الآية: 41، الصفحة: 390.
  • 7. تأريخ الطبري 3 / 309، ومعجم البلدان 4 / 444، وإعلام الورى 1 / 451، والأخبار الطوال / 252، وبحار الأنوار 44 / 380.
  • 8. مجمع الزوائد 9 / 192، والأخبار الطوال / 253، وحياة الحيوان – للدميري 1 / 60.
  • 9. تذكرة الخواص / 260، ونفس المهموم / 205، وناسخ التواريخ 2 / 168، وينابيع المودّة / 406.
  • 10. سيرة الائمّة الاثني عشر القسم الثاني / 68.
  • 11. الإرشاد – للمفيد 2 / 85، الفتوح 5 / 97، بحار الأنوار 44 / 284، إعلام الورى 1 / 451، البداية والنهاية 8 / 189، مقتل الحسين – للخوارزمي 1 / 245.
  • 12. إعلام الورى 1 / 452.
  • 13. من کتاب الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء، بإشراف سماحة السيّد منذر الحكيم.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى