سيرة أهل البيت (ع)مقالات

رسالة الإمام الى عامله في مكة قُثم بن العباس

عبد الرحمن الشريفي

للإمام علي (عليه السلام) عيونه(مخبريه) في الولايات ليستقبل منهم ما يجري فيها. ومن تلك الولايات ولاية الشام التي يتحكم فيها معاوية الذي يمثل بؤرة الفساد فقد جعل من الشام منطلقاً لما يثيره من فتن تقوض مقومات المجتمع الاسلامي الصالح ليقيم على انقاضها مجتمعا منحرفا قوامه نوازع الباطل ليكون سنة لمن بعده تتوارثه اجيال الباطل .
في رسالة للإمام علي عليه السلام الى قثم بن العباس(1) وهو عامله على مكة يبدأها قائلاً: (أما بعد فإن عيني بالمغرب كتب إليّ يُعلمني أنه وُجِّـهً الى الموسم أناسٌ من أهل الشام) أي ان رقيب ومخبر الامام بالمغرب وهي الشام لأنها من الاقاليم الغربية للدولة الإسلامية في حينها , كتب له يُعْلِمَه عما يُبَّيْت معاوية ويحيك لإفساد المجتمع المكي في موسم الحج حيث مجتمع الحجيج وذلك بتوظيف أناس من أهل الشام أظلهم الشيطان للقيام بترويج الاكاذيب ضد الحق وأهله لأجل ان يكون لمعاوية أعوانا يقومون بمهمة الاعلام المضاد لمنهج الاسلام الحق المتمثل بالإمام علي عليه السلام.
ثم يبين الإمام صفات هؤلاء المفسدين قائلا: (العُمْي القُلوبِ, الصُّمِّ الأَسماع, الكُمْه الأبصار) أي أَنهم لانغماسهم في الدنيا وتشربهم حبها عُمْي القلوب عن دعوة الحق حتى اعمى الله قلوبهم, ومصداق هذا قوله تعالى: (فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
والذي أعمى الله قلبه يصاب بذهاب سمعه فهو من (الصم الأسماع) ولهذا فهم لا يوظفون اسماعهم لاستماع الحق, وجراء هذا المنزلق الخطير يتحولون الى (الكمه الابصار) فالذي يولد اعمى لا يبصر ما حوله, والامام شبه هؤلاء المفسدين بذلك لانهم عمي البصيرة لرؤية الحق فهم كالكمه الابصار.
ثم يقدم الامام لعامله قثم بن العباس مظاهر لأسس الضلالة التي يسعى هؤلاء المفسدون يوحي منها فيقول عليه السلام: (الذين يلتمسون الحق بالباطل ويطيعون المخلوق في معصية الخالق, ويحتلبون الدنيا درَّها بالدين ويشترون عاجلها بآجل الابرار المتقين) أي انهم بعد ان خلطوا الحق بالباطل فأمسوا في لَبسٍ مما هم فيه ولذلك فقدوا اثر الحق في الحياة ومدياتها المطلقة التي يحياها المؤمنون بالله وهم في سعادة يستشعرون البشارة الكبرى لحياتهم الأبدية في الآخرة.
ولأهمية ذلك قال تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وانتم تعلمون).
وان هؤلاء المفسدين يطيعون معاوية في معصية خالقهم فهم (يطيعون المخلوق في معصية الخالق) وهذا السلوك المنحرف هو الغالب على كثير من الناس كما هو بالأمس واليوم، فترى انحيازهم واعتمادهم على المخلوق دون النظر الى خالقهم الذي وهبهم الحياة وسخر كل ما في الكون والحياة اكراما لهم.
ثم يشير الامام الى نتائج من يتخذ المخلوقين وباطلهم قواما ونظاما لحياته دون التمسك بالله الحق المبين فيقول عليه السلام: (ويحتلبون الدنيا درّها بالدين ويشترون عاجلها بآجل الأبرار المتقين) وذلك لطلبهم الدنيا بالدين الاسلامي فيجعلون خيراتها في متناول أيديهم كالذي يستخلص دّر الناقة (لبنها) لنفسه وبهذا يكون الدين الذي يتظاهرون بتمسكهم به وسيلة لما ينالون من حطام الدنيا.
وكلام الامام فيه تقريع وتحذير لعواقب الذين يحتلبون الدنيا دّرها بالدين فيجعلون من الدين مصنعا لطبقة من الاغنياء اصحاب النعمة الموفورة من رجال الدين والهيأة الحاكمة التي تدعي الاسلام ودونهم الفقر ينهش بأجساد الفقراء ليلقيهم على قارعة الطريق او يدسهم في اقبية مظلمة تتدثر بجهلها, وقد لازمها الجوع واتخذتها العلل مرتعا.
وقوله عليه السلام (ويشترون عاجلها بآجل الابرار المتقين) ولفظ الشراء مستعار لاستعاضتهم ذلك العاجل من الدنيا لذلك الآجل في الآخرة وما اعد الله تعالى للصالحين من نعيم, وان هذا لهو الخسران المبين لمن اشترى الدنيا بارتكاب المعاصي على حساب ثواب الآخرة.
ثم يعقب الإمام عليه السلام قائلا: (ولن يفوز بالخير الا عامله ولا يجزى جزاء الشر الا فاعله) الامام يرغب ان نفوز بالخير الذي لا يناله الا من استعمل عقله فيوظف عمره عاملا في اتيان الخير.
وبالمقابل فان الامام يُنَفِرُنا من الشر ومساوئه الذي لا يؤتى به إلا من لم يستعمل عقله وترك العنان لنفسه بفجورها ليكون فاعلا في اتيان الشر وثمرة ذلك كله في قوله تعالى: (وان ليس للإنسان الا ما سعى *وأن سعيه سوف يرى).
ثم يوجه الامام عليه السلام عامله في مكة بقوله عليه السلام: (فأقم على ما في يديك قيام الحازم الصليب والناصح اللبيب التابع لسلطانه المطيع لإمامه) وذلك بان يكون اهلا بالقيام على ما في يديه من عمل كقيام الحازم الصليب اي الحازم المتثبت في آرائه والصليب في طاعة الله وكذلك يكون قيامه كالناصح اللبيب أي الناصح العاقل له ولأوليائه, وان يكون تابع لبرهانه وحجته ودليله اي ان يكون على بينة باتباع الحق. والإمام عليه السلام يؤكد لعامله في مكة انك بتوظيف ارائك وتفكيرك للصواب فانت بمقام (المطيع لإمامه) لذا جاءت عبارة المطيع لإمامه غير معطوفة على ما قبلها لأنها موضوع لما قبلها وبهذا يستوي المعنى لما يريده الامام في قوله (التابع لسلطانه المطيع لإمامه) ثم يقول عليه السلام (واياك وما يعتذر منه) أي احذر ان تفعل شيئا يحتاج الى الاعتذار منه لان الاعتذار لا يكون الا عن امر مذموم.
فالإمام يأمر عامله في مكة ان يخطط لأي عمل قبل أن يبدأ به حتى يتلافى الأخطاء التي قد توقعه في تقصير يؤدي الى معصية.
ثم يختم الإمام عليه السلام رسالته الى عامله قثم بن العباس قائلا: (ولا تكن عند النعماء بطرا ولا عند البأساء فشلا) أي لاتكن عند كثرة النعمة وحلولها عندك بطرا أي شديد الفرح مع ثقة بدوامها.
ولا عند البأساء فشلا اي في الشدة والمشقة فشلا اي جبانا خائر القوى.
ومراد الامام من ذلك المحافظة على النعمة من زوالها عند البطر والمحافظة على عزيمة الشجاعة من خوارها عند استشعار الفشل عند نزول الشدة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قثم اخو عبد الله بن العباس بن عبد المطلب جد النبي وكان الإمام قد ولاه مكة المكرمة وبقي عليها حتى استشهد الامام, واستشهد قثم بسمرقند في زمن معاوية.
وقثم: يأتي بمعنى كثير العطاء فهو معطاء (لسان العرب).

المصدر: http://alwelayh.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى