إسئلنا

الحق من نظرة قانونية…

أرى إمكانية تشكيل رؤية واحدة حول مفهوم الحق باللحاظ القانوني، وإن كان ظاهر التعريفات في هذا المقام متغايراً خصوصاً في التفاصيل، وذلك لأنها تنطلق من روح واحدة، وتشير إلى حقيقة واحدة.

ويظهر أن التغاير يعود إلى التعدد وربما التطوّر في المباني الفلسفية، فمفهوم الحق عند أهل القانون متأثر بشكل واضح بطبيعة الروح الفلسفية الرائجة في زمان ومكان ما، وكلما تطوّرت المباني الفلسفية كلما تطوّر مفهوم الحق أو تغيّر.

فالفيلسوف الذي كان يعيش نمطاً سياسياً واجتماعياً في العصور الأولى لتكوّن الفكر الفلسفي، أعطى الحق معنى يتناسب مع متطلبات بيئته السياسية والإجتماعية، فالفيلسوف الإغريقي والقانوني الروماني الذي كان مشغولاً بالبحث عن العدالة نظرياً وعملياً، والتي ربما كان يفتقدها، نظر إلى الحق على أنه تجسيد لإحترام الكائن البشري1.

بينما الفيلسوف الحديث الذي كان ينظِّر لمفهوم الفرد بصفته مذهباً فلسفياً، أعطى الحق تفسيراً آخر، ويمكن الوقوع على ذلك بصورة واضحة فيما قرره الدكتور الحاج حول مفهوم الحق في هذا السياق، فقد قال «نحن لو عرفنا كلمة «الحقوق» droits لتبادر لنا للوهلة الأولى أنها مجموعة من الإمتيازات التي يتمتع بها الأفراد والتي تضمنها بصورة أو بأخرى السلطات العامة أو تلك التي تستحق الضمان.

وهذا المفهوم لكلمة droits هو الذي يطلق عليه الفرنسيون «droit subjectif»، ويطلق عليه الإنجليز مصطلح «right»، ونستطيع بموجب ذلك أن نقول بـ «حق الملكية»، أو «الحق في الحياة»، أو «الحق في الزواج»، وغيرها من الحقوق التي يتمتع بها الإنسان في مجتمع منظم. ويظهر على هذا الإصطلاح تأثير الفلاسفة الذين كانوا مهتمين بالفرد أكثر من اهتمامهم بالمجتمع والذين كانت لهم السيادة في ميدان الفكر والقانون في القرنين السابع عشر والثامن عشر إبان سيادة المذهب الفردي الذي ظهر كرد فعل للحكم المطلق، واستبداد الملكية وطغيانها، والذي يرتكز على الحرية والمساواة المطلقة بين الأفراد، وكان أكبر دافع لقيام الثورة الفرنسية التي بالغت في شأن حقوق الفرد ووضعت من أجله «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» عام 1789م. وهكذا أصبح الفرد أساس القواعد القانونية وهدفها الأسمى، بحيث لا تسن هذه القواعد إلا لحماية حقوقه وحرياته، ومن هنا كان ارتباط الحقوق بالإنسان فأصبح لدينا مصطلح «حقوق الإنسان»2».

فهنا بالرغم من وجود تغاير في المعنى الظاهري للمفهوم والمبني الفلسفي المنتِج لذلك المعنى، إلا أننا مع ذلك نستطيع أن نصطاد معنى متقارباً لمفهوم الحق قانونياً، لأن هذا التغاير وإن كان يظهر منه -بحسب النَظَر البَدْوي- التباعد النسبي أيضاً، إلا أنه منطلق من روح واحدة تهدف لتحقيق العدالة والمحافظة على كرامة الإنسان بلا فرق بين الفرد والمجتمع.

هناك أيضاً نمط آخر من التغاير في الجو الفلسفي يلقي بظلاله على الخط الذي يفسِّر مفهوم الحق ولو مرحلياً، كما لاحظ ذلك بعض المحققين في التاريخ الفلسفي، فطبيعة التداول الفكري في المجتمعات المثقفة تولِّد إشكالات وتساؤلات ترتبط كثيراً من الأحيان بالمفاهيم، لكن بلحاظ خاص تفرضه المرحلة، دون أن يكون لذلك أثر في التفسير الشمولي للمفهوم، وهكذا طبيعة المشكلة السياسية أو تطوّر الحياة الاجتماعية، بل وطبيعة التداول العقدي، كل ذلك له أثر على تفسير مفهوم الحق -بل جميع المفاهيم-، لذلك تارة يعرَّف الحق بالحقيقة فلسفياً، تبعاً للحاجة المرحلية ثقافيةً كانت أو سياسيةً أو غير ذلك، وتارة يُعرَّف بقيمة القيم أو الامتيازات الفردية المعبِّرة عن إنسانية الإنسان، وهكذا.

ذلك ما يمكن ملاحظته عند تتبع مراحل تكوّن الفكري الفلسفي على مستوى المفاهيم والمعاني، كما أشير إلى ذلك في كلمات بعض المتتبعين حيث قال «في الإطار الفلسفي تقلب مفهوم الحق بين معان متنوعة، تختلف حسب الأنساق الفلسفية والسياق التاريخي الذي كان أساس تداوله. فاتخذ معان أنطولوجية يراد بها عادة كل وجود مطلق، كما اتخذ معان إبستيمولوجية يراد بها الحقيقة المطلقة. كما تم تداول مفهوم الحق بمعان أكسيولوجية باعتباره قيمة القيم.

وفي عصر الأنوار أصبح الاهتمام بالحق كقيمة إنسانية على أساسها تبنى وتحدد كرامة الإنسان. وقد تنوع بعد ذلك تداوله في جميع مناحي الحياة الإنسانية، فاشتغلت به الفلسفة والسياسة والاقتصاد…الخ. وارتبط بمفاهيم فلسفية كالعدالة والحرية والواجب…الخ، أي كل القيم التي بموجبها يمكن أن تتفاعل وتتحقق إنسانية الإنسان».

كل ذلك يدلل على مستوى التطوّر وربما التحوّل في معاني مفهوم الحق على المستوى الفلسفي، بشكل يلقي بظلاله الخاصة على نمط تداول هذا المفهوم قانونياً، بحيث يُلحَظ نوعٌ من التغاير في تفسيره على المستوى القانوني، من زمن لآخر أو مكان لآخر. ومع ذلك نستطيع أن نستخلص تفسيراً جامعاً أو متقارباً، نظراً لوحدة الروح المشكِّلة لهذا المفهوم، كما سيتضح قريباً 3.

  • 1. المفاهيم القانونية لحقوق الإنسان عبر الزمان والمكان، الدكتور ساسي سالم الحاج، ص18، دار الكتاب الجديدة المتحدة-بيروت، الطبعة الثالثة 2004م.
  • 2. المصدر نفسه، 16.
  • 3. الموقع الرسمي لسماحة الشيخ فيصل العوامي حفظه الله.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى