التعليممقالات

العنف باسم الاسلام وشريعة العابثين …

لأي شيء يحدث هذا القتل العبثي في أكثر من مكان في العراق، وفي غيره من بلدان العالم بإسم شريعة الاسلام، التي تخترق كل يوم بألف ألف فتوى من النوع الخشبي الصنمي التكفيري، وتُحمّل ألف ألف ضحيةٍ بريئةٍ دون ذنب.
فهل الإسلام بدعو الى قتل الناس غيلة وعلى قارعة الطريق لمجرد الاختلاف في الرأي أو المذهب أو الدين؟
وهل الإسلام يدعو الى العنف وسيلة في الوصول الى السلطة والحكم؟.
إن أسوأ ما يحدث هو أن أولئك الذين يروجون للعنف الدموي على أنواعه المتعددة، لا يحتاجون الا الى أهوائهم في تفسير الإسلام، بلغة تخاطبٍ تدل على وهن أصحابها النفسي، وشرودهم الفقهي، وتهافتهم الفكري.
وشريعة هؤلاء ليس بالضرورة أن تلازم المعايير والبديهيات والثوابت، وتجري مجرى المحكمات من آيات القرآن الكريم، والأخبار القطعية عن الرسول محمد(ص)، وإجماع المسلمين، بل ولا أن تخضع للعقل وميزانه في تحديد القبح من الحسن، والحق من الباطل، والبريء والضحية من المجرم والجلاد. والا كيف نفسر ظاهرة التكفير والانتقام وقتل المدنيين، وخطف المستأمنين وذبحهم، وإحداث الفوضى واستثارة الضغائن والأحقاد، وتعريض الناس للخوف والترويع والترهيب.
إن ادعاء “الإسلامية الثورية” والحفاظ على قيم الدين لا تكون بالقساوة والتشدد والبطش واستخدام العنف الذي يتسبب بقتل الأطفال والابرياء، لأن ذلك ينافي حقيقة الدين الإسلامي وسماحته. ولو عدنا بقراءة تاريخية الى سيرة الأنبياء، لوجدنا أنهم ما عاملوا الناس الا بالرحمة واليسر والإقناع، وما أمروا الا أن يخاطبوهم على قدر عقولهم، ويحدثوهم وفق قابلياتهم واستعداداتهم، على أساس منهج ثقافي تربوي نفسي، يراعي التدرج الزماني في فرض الأحكام.
وفي القرآن الكريم قصص معبرة وآيات مثيرة للاهتمام والتفكر حول محور التسامح واللين والرأفة وحرمة إراقة الدماء وغيرها من قواعد الحدود التي تراعى فيها أعلى درجات الاحتياط. إذ الأصل في الإسلام ليس العنف بل اللين، والاختيار والحرية لا الإكراه والقسر والإلزام.
وهذا القرآن الكريم يحدثنا عن طاغية من أكبر طغاة عصر موسى وهو فرعون الذي أهلك الحرث والنسل وأفسد في الأرض وأمر بقتل الرضّع، ومع ذلك فإن الله لما أرسل إليه موسى وهارون، قال لهما: “اذهبا الى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى”.
وإن دلّ هذا الأمر على شيء فإنّه يدل على اصالة اللين وأولويته حتى مع الطغاة، لأن غرض البعثة النبوية هو حصول الإصلاح وشمول النفع لكل أفراد المجتمع بالنصح والرفق. ومع أن النبي موسى (ع) كان يملك من وسائل القوة الإلهية ما يمكنه من تحطيم عدوه، وإنزال العقوبة به بشكل حاسم الا أنه أُمر بمخاطبة خصمه باللين، وإثبات الحجة عليه بالمحاججة والبرهان.
فعجباً من أولئك الذين يمارسون العنف كما تمارسه إسرائيل وأمريكا، ويبررون لأنفسهم قتل الناس مسلمين ومسيحيين، كيف لا يتأملون سير الأنبياء، وكيف كانت معاملتهم مع أعدائهم وخصومهم؟ وكيف لا يستحضرون تاريخ رسول الهداية والرحمة محمد(ص)؟ أم أنهم أفضل من الأنبياء وخير من الصحابة والأولياء؟!
فما معنى أن يقوم شخص بتفجير نفسه في مجموعة من الأطفال يلهون على قارعة الطريق، وما معنى تفجير شخص نفسه بجمع من المصلين في مسجد أو حسينية، وما معنى أن نخطف صحفياً أجنبياً ثم نرمي بجثته الى جانب الطريق. ومن الواضح أن نفس المبررات التي تقضي بقتل الناس في العراق كيفما كان، يتم تطبيقها في البلاد الغربية حيث يتم استهداف المدنيين بمِدية الإسلام وسيف الإسلام وشريعة الإسلام.
فأين احترام الأنفس التي أمرنا بها ديننا، والتزام أداب الحوار والمعاشرة، ومعاملة الناس بالمحبة والرفق.
فهل الاختلاف يبرر كل هذه الدموية، وهل نحن قيّمون على المجتمع فنفرض ما نفرض، ونحرّم ما نحرّم، ونسوّغ لأنفسنا ما نشاء من أفعال ما أنزل الله بها من سلطان.
وإذا كان الدين لا يُفرض بالإكراه كما هو صريح القرآن الكريم، وإنّما ترك الله للناس حرية أن تؤمن أو تكفر، فهل نحن أولى من الله بفرض ما لم يفرضه عليهم، وهل نحن أولى منه بالاقتصاص من الذين لا يؤمنون به، بحيث نبرر لأنفسنا قتل كل من لم يتكلم كلامنا ويفعل أفعالنا. ولا شك أن النتيجة ستظهر صورة مشوهة عن الاسلام تماثل تماماً ما قام به رجال الكنيسة بإسم المسيحية في القرون الوسطى.
وإذا كان لأحد باسم المسيحية أن يبرر كل هذه المجازر في أفغانستان والعراق وفلسطين وغيرها من دول المسلمين، فهل نفعل ما يفعله غيرنا، وهل نتآمر على إسلامنا مثلما تآمر البعض على المسيحية واعتبر الحرب في العراق حرباً صليبية جديدة.
تُرى هل هذا المنهج وفقاً لهؤلاء يعزز مكانة الإسلام ويرفع من شأنه، وهل الطمع في الأمجاد والعزة أن نترك الأعداء الحقيقيين، والمحتلين الغاصبين، لنثأر من المدنيين بهذا الشكل الوحشي؟
فما الفرق إذاً بين الإسلام والعنصرية والصهيونية والطائفية.
إذا كنا لا نقبل بالاختلاف والتعايش. وما الفرق حينئذٍ بين رسالة الإسلام السمحاء، القائمة على الانفتاح الحضاري، والحوار الإنساني، وبين غيره من الإيديولويجيات والمذاهب القابضة على الفكر، والمقيدة للحرية، والنابذة للآخر وعدم الاعتراف به الا باعتباره عدواً يستوجب القتل والأذية.
هي محنة وأي محنة، ومصيبة ما بعدها مصيبة، تهدد الإسلام قبل أي شيء آخر وتنتج الجمود، وتُشمت بنا الأعداء، نحن المسلمين الذين نتوق الى أن نثبت لأنفسنا قبل الآخرين، أننا نستحق هذا الدين الذي هو أكمل الأديان، وهذا النبي الذي هو خاتم الأنبياء وأعز المرسلين.
وهنا أستذكر كلاماً لاستاذي الإمام الصدر على خلفية الحرب الأهلية اللبنانية وتصارع الطوائف وتناحر الأحزاب حيث كان يقول: قد تصبح إسرائيل في يوم من الأيام حامية الأقليات إذا استمرينا في إنجاح مشاريع الفتنة التي أرادوها لنا. ولكن الأمر لا يتوقف على ما يريده غيرنا بنا، بل ما نريده نحن بأنفسنا. فنحفر بأيدينا قبورنا، ونضع الأمة الإسلامية من جديد على طريق التشرذم والتشتت والضعف تحول دون تقدمها الحضاري والسياسي.
إن ما يهمني أن أؤكد عليه، أن من يمتلك أدنى معرفة بتاريخ الإسلام يعرف أن النبي(ص) ما انتصر الا بالتبليغ والهداية والرفق، وأنه لم يحمل سلاحاً لفرض الدين، ولم يستخدم العنف سبيلاً لإثبات حكمه، وإنّما من خلال توعية الناس ومحاورتهم بالعقل، والتودد إليهم بالحسنى والمداراة. هو عنف باسم الإسلام إذا، عنف يحمل أصحابه بطاقة هوية انتسابهم للإسلام زوراً، لكن يجهلون أن ليس كل من حمل بطاقة هوية “إسلامية” أو ولد من أبوين مسلمين بالضرورة أن يكون مسلما. فالمسلم هو من سلم الناس من لسانه ويده، ودخل في مفهوم المواطنية الإنسانية على أساس أن الناس صنفان كما يقول أمير المؤمنين علي (ع) في عهده لمالك الأشتر: “إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم، وابتلاك بهم، ولا تنصبن لنفسك لحرب الله، فإنه لا يد لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته”.
واستدرك بملاحظة اخيرة حول ما شهدته بعض العواصم الغربية من تفجيرات مهولة من قبل مجموعات حظيت بالاحترام من قبل هذه الدول، وعاشت بأمان وحرية، واستفادت من الخيرات والخبرات والمعارف الموجودة هناك، ما لم تستطعه في بلاد الاسلام والعرب. ومع ذلك نرى إجحافاً وإنكاراً تُرجم عنفاً على المدنيين، اعتقاداً ان ذلك يحقق النصر على الكفار، الذين يستحقون جميعهم الرجم والموت.
نعم إن الادارات الغربية والحكومات الاستكبارية سلبت المسلمين خيراتهم، واستباحت ارضهم، واغتصبت حقوقهم،ولم تقف الى جانب الحق خصوصاً في قضية فلسطين , ولكن هل ديننا يبيح قتل العوام كيفما كان, وهل يسمح بأذية الناس الذين التزمنا واياهم عهداً من الامان واحترام المواثيق والقوانين.
فبأي شرع نقتل ونخرب وندمر ونعبث بمصالح الناس، الذين عشنا وأياهم ردحاً من الزمن، نرتع في ارضهم،وننعم في ظل قوانينهم بأعلى درجات حرية الرأي والمعتقد. فهل جزاء الاحسان الا الاحسان، أما أننا سنبقى ننقم على كل شيء غربي، حتى ولو كان طفلاً بريئاً، أو مسالماً منعزلاً , أو امرأة محايدة , او عجوزاً بالياً.
فلا وربك لا يؤمنون بشرع الاسلام وإنما شرع العابثين.
حفظ الله الاسلام وقرآنه، ووقى المسلمين شر فتنة تقضي على إخوّتهم، فلا يعرفون بعدها الا العداوة والكراهية والبغضاء1.

  • 1. المصدر: جريدة اللواء الجمعة 5 آب 2005 السنة 43 العدد 11452، سماحة الشيخ عفيف النابلسي حفظه الله.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى