مقالات

الأمل الإيجابي والأمل المخادع

قول تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾1

الأمل الايجابي
الأمل مفهوم يتعلّق بالمستقبل، فإذا تعلّق بالآخرة فهو يدعو إلى الإصلاح والتطوير، فالأمل برحمة الله تعالى يدعو إلى العمل، بينما اليأس من رحمة الله يعطِّل الحياة، لذا كان هذا اليأس من كبائر الذنوب.

والأمل المطلوب في رحمة الله يجب أن لا يوصل إلى الركون لروح الله بحيث لا يخاف عمله، فإنّه يعطِّل التطوّر والتكامل أيضاً.

أما الأمل في المستقبل الدنيوي فهو أيضاً ضروري لاستمرار الحياة بل هو وقودها، فبدون أمل بالمستقبل لا أتعلم ولا أتزوج ولا أعمل… لذا ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله): “الأمل رحمة لأمتي ولولا الأمل ما أرضعت أمّ ولدها، ولا غرس غارس شجراً”2.

قصّة معبِّرة: رأى النبي عيسى (عليه السلام) شيخاً يعمل بمسحاة يثير الأرض، فقال عيسى (عليه السلام): “اللهم انزع منه الأمل فوضع الشيخ المسحاة واضطجع، فلبث ساعة، فقال النبي عيسى (عليه السلام): اللهم اردد إليه الأمل. فقام فجعل يعمل، فسأله عيسى (عليه السلام) عن ذلك فأجاب الشيخ: بينما أنا أعمل، إذ قالت لي نفسي: إلى متى تعمل وأنت شيخ كبير؟! فألقيتُ المسحاة، واضطجعت، ثم قالت لي نفسي: والله لا بدَّ لك من عيش مابقيت، فقمت إلى مسحاتي”3.

قال الشاعر: أعلّل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل4

الأمل المخادع
يميّز الإمام زين العابدين (عليه السلام) بين الآمال في دعائه “اللهم ربِّ العالمين… أسألك من الآمال أوفقها” وقد قال (عليه السلام) “أوفقها”؛ لأن هناك نوعاً من الآمال يدخل في دائرة السلبية حينما يمنّي الإنسان أن يطول عمره في الدنيا، فيبعده ذلك عن التفكير في الآخرة، وهذا ما يفقده ذلك التوازن الذي عبَّر عنه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً”5، وبالتالي فإنَّ طول هذا الأمل يؤدي إلى سوء عمل الإنسان، وهذا ما أرشد إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: “من طال أمله ساء عمله”6.

وهذا الأمل هو الذي حذّرت منه الآية “ويُلههم الأمل”7، وهو أيضاً الذي وصفّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) بقوله الوارد عنه: “يهرم ابن آدم ويشبّ فيه اثنتان: الحرص وطول الأمل”8.

قصّة لطيفة
روي أنّ هارون الملقّب بالرشيد طلب يوماً أن يسمع حديثاً من شخص أدرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجيء له برجل عجوز متداعٍ متهالك في غاية الضعف والوهن ولم يبق منه إلا الأنفاس في كومة عظام بالية.
وضعوه في زنبيل، وأتوا به إلى بلاط هارون في غاية العناية، وأدخلوه عليه فوراً (حتّى لا يفقد الحياة قبل اللقاء).
سُرَّ هارون، وسأله: أيّها العجوز أرأيت النبيّ الأكرم؟
قال: بلى.
قال هارون :متى رأيته؟
قال: أخذ أبي بيدي يوماً في طفولتي واصطحبني إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم لم أدرك محضره حتّى رحل عن الدنيا.
قال هارون: أسمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئاً ذلك اليوم؟
قال: بلى، سمعت من رسول الله ذلك اليوم أنّه قال: “يشيب ابن آدم، وتشيب معه خصلتان: الحرص وطول الأمل”.
فسُرّ هارون وأمر بإعطائه كيساً من ذهب.
وحينما أخرجوه رفع صوته في أنين واهن ضعيف: ردّوني إلى هارون فلديّ معه كلام.
قالوا: لا مجال لك في ذلك، فأصرّ، فأرجعوه.
قال لهارون لديَّ سؤال، فقال له: قل.
فقال العجوز: أيّها السلطان عطاؤك الذي تفضّلت به عليّ اليوم لهذه السنة فقط، أم هو عطاء يتجدَّد كل عام؟
فضحك هارون وقال: صدق رسول الله: يشيب ابن آدم وتشيب معه خصلتان الحرص وطول الأمل.

طول الأمل
إنّ طول الأمل هو مصطلح للأمل الذي يقود الإنسان بعد أن يفقد زمام المبادرة، وبالتالي يكون قائده الهوى بدل العقل، وهذا ما أرشد إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله في دعائه: “… وإن أسلمتني أناتك لقائد الأمل والمنى فمن المقيل عثراتي من كبوات الهوى”9-.

إنّ قيادة الأمل هذه تمنّي الإنسان بسعادة موهومة تمنعه من التكامل، إلى التسافل فتوسّوس له:
اسرق، فستعيش بعد ذلك مرتاحاً بقية حياتك.
لا تعطِ مالاً للفقراء، لأنك ستعيش طويلاً، وقد تحتاج إلى المال أكثر من غيرك.
غُشَّ الناس، فإنّ فائدة ذلك ستعود عليك في مستقبلك دون أن يشعر أحد بذلك.

إنّها قيادة الأمل الذي كان يستعيذ منه الإمام الصادق (عليه السلام) في دعاء عرفة بقوله: “أعوذ بك من دنيا تمنع خير الآخرة، ومن حياةٍ تمنع خير الممات، ومن أمل يمنع خير العمل”10

آثار طول الأمل
إنّ طول الأمل من خلال قيادته بدل العقل له آثار حذّر منها الإمام علي (عليه السلام) بقوله: “إنّ الأمل:
1- يذهب العقل
2- ويكذب الوعد
3- ويحثّ على الغفلة
4- ويورث الحسرة”11.

إنّها آثار الأمل السلبي القائد للإنسان في مسيرته مقابل الأمل الإيجابي الذي يتحرّك ولجامه بيد سلطان العقل وقيادته.

الأمل بالله تعالى
بلحاظ هذين النوعين من الأمل الإيجابي والسلبي أراد الله تعالى أن يصوّب بوصلة الإنسان نحو الكمال الحقيقي وبوصلة المجتمع الإنساني نحو تطوّره ورقيّه من خلال عقد الأمل على الله تعالى وقطعه عن غيره، عندها سيُدرك بركات المدد والتسديد والمواكبة، وقد عرض القرآن الكريم نماذج الآملين بالله في مواضع ييأس أكثر الناس منه:

1- نبي الله ابراهيم (عليه السلام) ذي الـ 120 سنة، وزوجته ذات الـ 90 سنة حينما جاءته الملائكة ﴿وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾.12

2- نبيّ الله زكريا (عليه السلام) ، وهو في الـ 99 عاماً وامرأته في 98 عاماً. ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّ﴾13.

3- نبيّ الله يعقوب (عليه السلام) حيث بقيّ أمله بيوسف بعد سنوات طوال. حتّى قيل له بتعجّب واعتراض: ﴿تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾14.

4- نبيّ الله أيوب (عليه السلام) حيث بقيّ أمله بالشفاء ثمانية عشر سنة فدعا (عليه السلام) بعدها: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ﴾15.

إنّه الأمل بالله الذي تبقى شعلته مضيئة بوقود الإيمان.

أمّا من ينحرف بأمله عن الله تعالى فإنه سيصل في آخر الطريق إلى اليأس. من هنا ورد عن الإمام علي (عليه السلام): “انقطع إلى الله سبحانه؛ فإنّه يقول: “وعزّتي وجلالي لأقطعن أمل كلِّ من يؤمِّل غيري باليأس”16 .

وفي عصرنا خير شاهد على صدقيَّة هذا الحديث، فالإمام الخميني (قده) أعلن بعد انتصار الثورة الإسلامية قطع الأمل من الشرق والغرب ووصله فقط بالله تعالى تحت شعار “لا شرقية ولا غربية جمهورية إسلامية”، وانطلاقاً من هذا الشعار فلننظر اليوم إلى التطوُّر الحاصل في إيران. بينما نجد كثيراً من البلدان الأخرى والتي أملت في أمريكا وإسرائيل من دون الله تعالى قد تراجعت وتقهقرت في مسيرتها.

سماحة الشيخ أكرم بركات.


1- الحجر،3.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص 173.
3- المرجع السابق، ج14، ص 329.
4- الأمين، حسن، مستدركات أعيان الشيعة، ج1، ص 215.
5- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج1، ص 35.
6- الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 453.
7- الحجر 3.
8- أبو الفتح، الكراجكي، معدن الجواهر،ص 25.
9- المجلسي، بحار الأنوار،ج84، ص 340.
10- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة،ج1، ص 103
11- الشاهرودي، مستدرك سفينة البحار، ج1، ص 184.
12- الذاريات، 29،30.
13- مريم، 3-5.
14- يوسف، 85.
15- الانبياء، 83.
16- المرجع السابق، ص107.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى