مقالات

الموقفُ الدينيُّ من مُنطلَقِ الاحتياط…

بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم: زكريا بركات

يُقصد بالاحتياط ـ في إطار الاصطلاحات الفقهية ـ : اتِّخاذُ الموقف الذي يجعل صاحبه على يقين من فراغ ذمَّته تجاه الحكم الشرعي عند الشك. مثالُه: إذا شكَّ المكلَّف في شرطية العدالة في إمام الصلاة، فإنَّ الاحتياط يقتضي أن يعتبر العدالة شرطاً، فلا يصلِّي خلف إمامٍ مشكوك العدالة أو معلوم الفسق.

والسبب في أنَّ الاحتياط يوجب اليقين بفراغ الذمَّة يكمن في أنَّ المكلَّف المحتاطَ يتَّخذُ الموقفَ الَّذي لا يرفضه أيُّ طرف من أطراف النزاع في المسألة، فيكون بذلك ـ على جميع الأقوال وبإجماع المختلفين ـ مُصيباً عمليًّا.

وبهذا يتَّضح أنَّ هناك أسلوبين لمعالجة أيِّ مسألة مختلف فيها:

الأسلوب الأوَّل ـ وهو الأسلوب السائد ـ : اختيارُ أحد الأقوال بوصفه الصواب، وترك ما عداه بوصفه الخطأ، سواء كان الاختيار والترك على أساس الاجتهاد أو على أساس التقليد.

والأسلوب الثاني ـ وهو الاحتياط ـ : اختيار الموقف الذي يمثِّل نقطة الوفاق بين أطراف النزاع في المسألة.

وقد يكون الموقف نفسه اختياراً لأحد أطراف النزاع، ولكنه في نفس الوقت محل وفاق بوصفه موقفاً عملياً، كما في الصلاة وراء إمام يتَّصف بالعدالة بمعنى الاستقامة والتقوى، فإنَّ الخلاف بين المتنازعين يكمن في شرطيَّة التقوى، ولكنهم لا يختلفون في صحَّة الصلاة وراء الإمام المتَّقي. فالنزاع في شرطية العدالة يؤول إلى الاختلاف في صحة الصلاة وراء غير التقي، فمن صلَّى وراء البرِّ التقي، كان قد أخذ بالاحتياط.

ومن الأمثلة ـ أيضاً ـ : الخلاف في شرطيَّة صفات خاصَّة في ما يُسجد عليه في الصلاة، فإنَّ الخلاف في ذلك يؤول إلى الخلاف في صحَّة السجود على الفرُش والأقمشة، بينما يتَّفق المختلفون على أنَّ من صلَّى على التربة ـ مثلاً ـ فإنَّ صلاته صحيحة، وبذلك يكون السجود على التربة محلًّا للوفاق ومجمعاً على صحَّته عند جميع الطوائف.

ومن الأمثلة ـ أيضاً ـ : الخلاف في جواز الضمِّ عند القراءة في الصلاة، وهو ما يعبَّر عنه بالتكفير، حيث يذهب طائفة من العلماء إلى كونه من سنن الصلاة، ويذهب طائفة أخرى إلى كراهته، وطائفة ثالثة يقولون إنه محرَّم في الصلاة ومُبطلٌ لها. فمع عدم وجود قائل بالوجوب، يكون التارك للضمِّ قد أخذ بالاحتياط.

ومن الأمثلة ـ أيضاً ـ : الخلاف في قول (آمين) بعد الفراغ من قراءة الفاتحة في الصلاة، ففيه أقوال، منها: أنه من السنن، ومنها أنَّه من المحرَّمات، ومنها أنَّه ـ بالإضافة إلى حُرمته ـ مُبطل للصلاة. فالاحتياط في هذه المسألة ـ أيضاً ـ يتمثَّل في ترك قول آمين، وبذلك يكون المصلِّي قد أخذ بأحوط الأقوال، وتكون صلاته صحيحةً إجماعاً.

وهذه هي مزيَّة الاحتياط العمليِّ حيث يُمكن انتهاجُ طريقه.

وتكمن فضيلة الاحتياط في أنه قد يمثِّل مدخلاً إلى تطهير النفس من أدران العصبيَّة المقيتة، فيتَّخذ المكلَّف الموقف بوصفه مقتضى الاحتياط، لا بوصفه اختيار طائفة ينتمي إليها أو فقيه يقلِّده، كما إنَّ الاحتياط قد يكون الأساس للوفاق العملي بين أبناء المجتمع بالرغم من وجود الاختلاف النظري.

ثمَّ إنَّ الاحتياط لا ينحصر في المواقف السلوكيَّة، بل يمكن أن نتعدَّى به إلى المواقف الفكريَّة التي تمثِّل أساساً للمواقف السلوكيَّة، مثل الاختلاف في حقَّانيَّة الطوائف والمذاهب وتحديد الأولى منها بالاتِّباع؛ فإنَّ المسلمين جميعاً لا يختلفون في أنَّ أئمَّة أهل البيت (ع) يمثِّلون المرجعيَّة الدينيَّة الرشيدة، ولكن وقع الخلاف في صحَّة الرجوع إلى العلماء والفقهاء الذين لم ينهلوا من علم أهل البيت (ع) ، فالاحتياط ـ في ذلك ـ يقتضي الاقتصارَ على مرجعيَّة أهل البيت (ع) وعدم الرجوع إلى من لا يرجع إليهم.

وبهذا يتَّضح أنَّ الاحتياط يتجلَّى في الأخذ بالمجمع عليه وما لا ريب فيه، وترك ما هو مختلف فيه، سواء كان موقفاً عمليًّا سلوكيًّا أو فكريًّا نظريًّا..

والله من وراء القصد، وهو وليُّ التوفيق.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.

12 ـ 12 ـ 2021

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى