إسئلنا

دور المثقف…

لقد أسرفت الأدبيات العربية في الحديث عن دور المثقف، وتحولت إلى مقولة لا يتوقف الكلام فيها وعنها، وبطريقة مملة في أغلب الأحيان، ويغلب عليها التكرار والاجترار والطابع التقليدي، ويكثر فيها الإنشاء، ويقل فيها الإبداع. وقد ظل الحديث يتردد حول هذه المقولة بصيغ ظاهرها مختلف لكن جوهرها واحد، فتارة يجري الحديث عن هذه المقولة بصيغة ما هو دور المثقف في هذه المرحلة؟ أو في هذا العصر؟ أو أمام الأحداث الجارية، أو القضايا المطروحة؟ وتارة بصيغة ما هو دور المثقف تجاه هذه النكبة أو تلك، أو تجاه هذه المحنة أو تلك، أو تجاه هذا الموضوع أو ذاك؟ إلى آخر القائمة التي ليست لها نهاية. فما هو تفسير التمسك بهذه المقولة والحديث المتكرر عنها؟ فهل أن المثقف جاهلاً بهذا الدور وبحاجة لمن يذكره ويبصره به، ويلفت نظره إليه؟ أم أنه يحاول أن يجد ذاته ومجده وعظمته في الحديث المتزايد عن ذلك الدور، والذي يصور من خلاله المثقف أهمية وقيمة دوره، والحاجة الملحة والأساسية لهذا الدور، وأنه لا يمكن الاستغناء عنه في أي وقت، وفي كل عصر ومرحلة، وأمام أي حدث أو قضية مهما كان نوعها وحجمها، وهو الحديث الذي يستجيب لرغبته وطباعه وخياله النفسي والذهني والوجودي! أم أن المثقف حين يتمسك بالحديث عن دوره إنما يريد تجديد هذا الدور وتطويره وتحريكه والإضافة عليه، وتكييفه مع الأحوال والأزمنة المتغيرة والمتبدلة، وأمام القضايا والموضوعات المتجددة، وبقصد أن لا يصل هذا الدور إلى وضع جامد أو ساكن أو ثابت لا يقبل الحركة والمرونة والتغير، أو أن لا يصل إلى نهايته والاكتفاء منه وعدم الحاجة إليه. أم لأن المثقف لا يتمسك بهذا الدور، ولا يبقى ويحافظ عليه، وإنما قد يتخلى بإرادته أو بدون إرادته، لهذا فهو بحاجة دائمة للحديث عن دوره لكي لا يتخلى أو يتوقف عنه؟ هذه تأويلات متعددة ومتباينة قد تفسر لنا علاقة المثقف بالحديث الذي لا ينقطع عن طبيعة دوره. ولا أريد أن انتصر إلى تأويل معين، لأن جميع هذه التأويلات ممكنة، ولها أساس في الواقع الموضوعي ، باعتبار أن المثقفين تتعدد وتختلف أنماطهم وطباعهم وطبيعة شخصياتهم.

لهذا فقد ظل المثقفون يتعرضن إلى تساؤلات حرجة للغاية تحاول أن تشكك في دورهم، أو تستشيرهم وتحرك فيهم نزعة النقد. فهناك من يتساءل هل مازال المثقفون يصلحون لشيء؟ وهناك من يتساءل على طريقة سؤال المفكر الفرنسي روجيس دوبريه ما جدوى أن يكون المرء مثقفاً؟ وفي هذا النطاق أيضاً جاءت مقولة موت المثقف أو نهاية المثقف إلى غير ذلك من تساؤلات ومقولات. مع ذلك فلست من دعاة أن يتخلى المثقف عن دوره، ويكون بلا دور. وهناك من يغلب الدور الذي يتصل بالمعرفة، وهناك من يغلب الدور الذي يتصل بالمجتمع، وهناك من يغلب الدور الذي يتصل بشأن آخر غير المعرفة والمجتمع. فالمهم أن يكون للمثقف دوراً؟ وهو قادر على أن يتعرف على هذا الدور، ويلتزم به إذا كانت هذه إرادته1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأحد 26 سبتمبر 2004م، العدد 13910.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى