التعليممقالات

الوحدة الاسلامية ضرورة الحاضر والمستقبل …

للنبي الأكرم أبي القاسم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مكانة عظيمة ومتميّزة في قلوب المسلمين جميعاً، على اختلاف مذاهبهم وتنوّع مدارسهم العقائدية والفكرية والفقهية، فهو الشاهد والمبشّر والنذير الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور، وهو القائد الذي سار بهم ليؤسّسوا دولة الإسلام في الأرض، وهو الذي جعلهم في موقع القدوة والنموذج والمنقذ للأمم والشعوب من ظلم أنفسها وظلم حكّامها ومستعبديها، وهو بالنهاية الذي أوصلهم إلى المستوى الذي أصبحوا فيه قادة الأمم وسادة العالم.

إنّ هذه الصورة الإجمالية جداً و الجميلة جداً هي التي تسبق إلى عقل المسلم وقلبه عندما تطلّ عليه ذكرى الولادة العطرة المباركة لرسول الرحمة والإنسانية المصطفى الأمجد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويحاول كلّ مسلمٍ من خلال هذه الذكرى أن يعيش ولو في عالم التصوّر ذلك العصر النبوي المجيد بآماله وطموحاته وانتصاراته، كما بآلامه ومصاعبه ومعاناته، فيشعر بالقلق حين هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة إلى المدينة، ويفرح عندما يصل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ذلك المهجر ليؤسّس المجتمع الإسلامي الأول، ويشعر بلذّة النصر ونشوته في معركة بدر الكبرى، ويحسّ بمرارة طعم الهزيمة في موقعة أحد، بل لا نغالي في الكلام إذا قلنا بأنّنا من خلال هذه الذكرى نكاد نشعر بأنّنا مع أولئك المسلمين الصابرين مع النبي القائد في زمانه في حلّهم وترحالهم وهم يحملون هذا الإسلام العظيم مدافعين به تارةً عن عقيدتهم التي أعطت لوجودهم وحياتهم معنى متمايزاً عن كلّ الآخرين، ومبلّغين له تارةً أخرى كرسالة إلهية يريدون بذلك خير الأمم والشعوب لينعموا بالإسلام كما ينعم به المسلمون.

إنّ تلك الصورة الزاهية المشرقة للعصر النبوي وللعصور الإسلامية الأولى من بعده نراها المصداق الحقيقي لقول الله تعالى:﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ … ﴾ 1.

بينما إذا نظرنا إلى الحاضر الذي تعيشه الأمّة الإسلامية فسوف نصطدم برؤية صورةٍ أخرى قاتمة سوداء بعيدة كلّ البعد عن تلك الصورة الزاهية المشرقة للعصور الأولى، حتّى ليحسب المراقب أنّ هناك تناقضاً بين الصورتين ولا مجال لأن تلتقيا أبداً، “صورة أمّة الإسلام المرفرفة راياتها عالية خفّاقة” و “صورة أمّة الإسلام في الحاضر وهي مُنكّسة الرايات مُطأطأة الرؤوس” تعيش حالات اليأس والإحباط من جهة، والخضوع والإستسلام لموازين القوى التي تحكم عالم اليوم.

وإذا أردنا أن نحدّد الأسباب التي أوصلت الأمّة إلى هذه الحالة المأساوية المتنافية تماماً مع ما كان ينبغي أن يكون عليه المسلمون، يمكن اختصار ذلك بما يلي:

أولا: سيطرة القوى الإستكبارية بزعامة أمريكا على مقدرات العالم ومنه العالم الإسلامي، حيث تمارس تلك القوى هيمنة مباشرة تارةً وغير مباشرة تارةً أخرى على الشؤون السياسية والإقتصادية لدولنا الإسلامية وتستنزف ثرواتها وخيراتها وتمنع من أيّة حالةٍ من حالات التقارب بين دول وشعوب الأمّة الإسلامية بالترهيب تارةً والترغيب أخرى، وممّا يؤسف له شديد الأسف أنّ الأنظمة بأغلبيتها راضخة لهذه السيطرة الأمريكية بالتحديد، ولا تحاول أن تتحرّر من ذلك خوفاً من أن يفقد الحكام مناصبهم، أو خوفاً من المشاكل التي يمكن أن تثيرها أمريكا بالخصوص في وجههم.

ثانياً: طريقة الحكم التي تنفّذها الأنظمة الحاكمة في عالمنا الإسلامي، وهي الطريقة القائمة على الظلم والتعدّي ومنع كلّ تعبيرٍ حي صادق يريد أن يعبّر عن الحالة الحقيقية للأمّة، ولذا نرى أنّ الأنظمة تعمل على خنق كلّ الأصوات الصادقة والمخلصة في بلدانها، مع أنّ تلك الأنظمة ترفع الإسلام شعاراً أو تعتبره الدين الرسمي لدولها، إلاّ أنّها مع ذلك تذبح المسلمين المؤمنين كلّ يوم، أو تزجّ بهم في غياهب السجون مع ما يرافق ذلك من التعذيب الجسدي والنفسي، أو تجبرهم على الهجرة والغربة في ديار الكفر والضلال مع ما يرافق العيش هناك ضمن الواقع الغريب عن دينهم وحضارتهم من مخاطر على الدين والعقيدة من جهة، ومن نظرة الإحتقار والإزدراء والمهانة إلى المسلمين من جهةٍ أخرى.

ثالثاً: الحصار المذهبي الذي تعيشه الأمّة الإسلامية شعوباً وأفراداً، وهنا تركيزا على بقاء هذه الحالة المذهبية في ما بيننا، وليس هناك من سعي جدي وحقيقي للإرتقاء بالأمّة من هذه الحالة التقسيمية المانعة من إمكانيات التقارب والتلاحم بين أفراد الأمة وجماعاتها، بل نرى في هذا الجانب أنّ البعض من المتعصّبين من هنا أو هناك أو بعض من يرتبطون بالسلطات الحاكمة يروّج لفكرة أنّ توحيد الأمّة أمرٌ غير ممكن وهو مستحيل عملياً، بل يمكن أن نسمع أحيانا من هنا أو هناك أنّ هذه الفئة أو تلك خارجة عن إطار الإسلام ولا تمتّ إلى الإسلام بصلة.

هذه الأسباب الثلاثة بما تفرّع عنها في واقعنا الإسلامي هي التي أدّت إلى حدوث مأساة فلسطينية وإلى ضياع القدس، وإلى هذه الحالة الصعبة التي تعيشها الأمّة في كلّ مواقعها، فلا وزن لها على المستوى السياسي ولا وجود لها على هذا الصعيد، وكذلك في المجالات الإقتصادية والإعلامية والعسكرية، بل فيما هو أقل تأثيراً من ذلك كالمجالات الثقافية والفنية.

وبعبارةٍ مختصرة ليس للعالم الاسلامي أن يبقى كذلك حتى استنزاف كلّ طاقاته وموارده وإمكانياته وثرواته، وكلّ تلك القوى حاضرة لأن تبتدع الكثير من المؤخّرات والفتنة فيما بين شعوب الأمّة ودولها حتّى لا تخرج عن هذه الحالة.

وما تقوية إسرائيل الغاصبة وتزويدها بكلّ أسباب القوّة إلاّ جزءاً من هذه المؤامرة العالمية والحصار العالمي المفروض على هذا العالم الإسلامي حتّى يبقى في حالة انشغالٍ وإرباك دائمين.

أمام هذا الواقع القاسي والمرير الذي نعيشه ونحسّ به وبآلامه وأوجاعه ونتجرّع مرارته كلّ يوم نحن بحاجة إلى ثورة مضادّة تنتفض ضدّ كلّ هذا الجو المحبط الذي يلفّ حياتنا وتنقذنا ممّا نحن فيه.

إلاّ أنّ الثورة التي نحتاجها هنا ليست ثورة عسكرية مسلّحة، وإنّما ثورة القيم والمبادئ والأصول ضدّ تراكمات التاريخ، ثورة الإنفتاح ضدّ التعصّب والتحجّر، وثورة الوعي ضدّ التخلّف، وثورة التحرّرمن التبعية والإستغلال.

لقد أعزّنا الله بالإسلام ورفع به من مقامنا وشأننا وأوصلنا إلى مقام لم نكن نحلم به، وبإمكاننا أن نعود إلى ذلك المقام الشامخ إذا توافرت عناصر النجاح التي نمتلكها فعلا، إلاّ أنّ المشكلة هي أنّ تلك العناصر مبعثرة ممزّقة تحتاج إلى من يجمعها ويؤالف بينها.

فنحن اليوم أضعف من مسلمي عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والعصور التي تلته مباشرة، وأعداؤنا ليسوا بأقوى من الأعداء الذين واجههم أولئك المسلمون وانتصروا عليهم.

إنّ قوة المسلمين وبأسهم هي في “توحيد الكلمة تحت راية كلمة التوحيد”، فالوحدة الإسلامية هي الأصل وليست فرعاً، إنّ وحدة الأمّة هي التعبير الحي والإستجابة الحقيقية لنداء إسلامنا العظيم وجهاد نبينا الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)…

فالإسلام الذي جمع محمداً العربي وبلالا الحبشي وصهيبا الرومي وسلمان الفارسي هل فقد قدرته على جمع المسلمين اليوم، أو هل تغيّر هذا الإسلام إلى الحدّ الذي لم يعد قادرا على جمع أبنائه؟ كلا، إنّ الإسلام المحمدي الأصيل ما زال كما هو محفوظاً في دستوره الأساس “القرآن الكريم” ومحفوظاً من خلال وحدة إلهنا ونبينا وصلاتنا وصومنا وحجّنا وكلّ وجودنا، إلاّ أنّنا نحن الذين نعيش الغربة عن ذلك ضمن جدران الوهم وأسوار الخيال.

ما نحن بحاجة إليه اليوم هو تلك الثورة التي تتجاوز كلّ أنواع الإختلافات الهامشية التي نقف عندها غير قادرين على تجاوزها والقفز عنها خوفاً من أوهام نصنّفها نحن في عقولنا وإدراكاتنا.

وحتّى نوحّد هذه الأمّة ينبغي أن لا نسقط أمام الوضع الذي نعيش، وأن لا نخاف من تهديدات أحد، سواء من التهديد بالإنعزال ضمن حدود ما نعيش، أو التهديد بقطع الأرزاق وما شابه ذلك ممّا نسمعه من هنا أو هناك من بعض العاملين في هذا المجال.

فالمرحلة التي نعيش صعبة ودقيقة وحرجة جداً، أو لعلّ الأمّة لم تعان طوال تاريخها المرير من حالةٍ شبيهة بما نحن فيه اليوم، بينما نحن إلى اليوم نتلهّى بقضايا بعيدة عن هموم الأمّة وعذاباتها، وإن عشنا معها ما تعاني فبعض من شعور وإحساس لا يتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد وأهم وأنفع.

ولا أريد هنا أن أبسّط المشكلة التي نعاني منها إلى حدّ القول بإمكانية تجاوزها بسهولة، فالمشكلة معقّدة ولا شكّ، إلاّ أنّ تعقيدها قابلٌ للفكّ والحل، إلاّ أنّنا لا نسعى السعي الحقيقي الجاد والهادف نحو الوصول إلى أنجح الوسائل وأكثرها قابلية لحلحلة العديد من مفردات المشكلة المعاشة.

من هنا نقول إنّ البداية الصحيحة للوصول إلى الهدف المطلوب وهو “توحيد الأمّة” تبدأ من القناعة الراسخة والعقيدة الثابتة بأنّ “وحدة الأمّة” هي الأصل، وهي محور حركة الأمّة وضمان عزّتها وقوّتها وكرامتها، وبأنّ الوحدة هي المصير الذي لا بدّ من الوصول إليه، وموطّنين الأنفس على هذه القناعة كائناً ما كانت الصعوبات أو العراقيل والمعوّقات.

ثمّ لا بدّ في كلّ بلدٍ إسلامي من أن يتنادى أهل الفكر والرأي من العلماء المستنيرين غير الخاضعين للضغوطات والظروف المعاشة لكي ينظّموا الحلقات والندوات والمؤتمرات التي توضح الأسباب المعيقة لحركة الأمّة ونهضتها، وأن يكون لكلّ ذلك أثره في أوساط جماهير المسلمين من خلال إشراكهم في تحمّل هذه المسؤولية المشتركة بين الجميع.

ثمّ لا بدّ من وقفةٍ جرئية يقفها العلماء الرساليون الصادقون في مواجهة أنظمتهم لتعريتها من جهة، ولفضح خياناتها وجناياتها بحقّ شعوب الأمّة من جهةٍ أخرى، ثمّ لكشف تبعيّتها وسقوطها أمام الإستكبار العالمي بزعامة أمريكا الشيطان الأكبر في هذا العصر.

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى قضايا مهمّة يمكن أن تشكّل منطلقا لتوحيد صفوف المسلمين، وعلى رأس هذه القضايا “اغتصاب فلسطين وتهويد القدس” حيث أنّ هذه القضية بما لها من قدسية في نفوس المسلمين جميعاً قادرة لو أحسن استغلالها لهدف توحيد الأمّة على أن تختصر لنا الكثير من الزمن وأن تقرّب لنا المسافات المتباعدة، لأنّ هذه القضية تملك من عناصر الجذب والتأثير العاطفي والوجداني الشيء الكثير.

وأخيراً نقول إنّ فرصتنا وسعادتنا بذكرى ولادة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ينبغي أن لا تنسينا أوجاعنا وآلامنا ومشاكلنا التي نعيش، بل ينبغي أن نأخذ من هذه الذكرى المجيدة محطّة للتأمّل ثمّ للتحضير لانطلاقة جديدة فيها من الزخم والقوّة والعمل الشيء الكثير المؤمّل من خلال الوصول إلى الهدف الكبير في الزمن الصعب وفي مواجهة الأعداء المتسلّطين على مقدرات الأمّة الإسلامية ووجودها واستقلالها.

والحمد لله ربّ العالمين.2

  • 1. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 110، الصفحة: 64.
  • 2. نُشرت هذه المقالة على الموقع الالكتروني الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد بتاريخ:السبت, 15 شباط/فبراير 2014.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى