مقالات

إضاءات من سورة المائدة…

الحديث عن علاقة الدين بالحضارة حديث ذو شجون ، وقد أسهب في تفصيلها وشرحها الكثير من المؤلفين والباحثين .
وخلاصة رؤيتنا فيها ؛ إن الحضارة والدين يشتركان في الطريق ، ولكن الحضارة البشرية ـ وأعني بها الجوانب الإيجابية من مدنية الإنسان ـ تتوقف عند الحياة الدنيا ، بينما يستمر الدين في تنظيم حياة الإنسان في الآخرة أيضاً .
وفي هذا أود أن أتحدث عمّا توصلت إليه من خلال التدبر في سورة المائدة التي نستطيع أن نقول : إنها تحدثنا عن حضارة المسلمين .

والمعروف عن هذه السورة أنها آخر سورة نزلت على قلب النبي الأمين ‏صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنها آية إكمال الدين حيث يقول‏ تعالى : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا … ﴾ 1.
ونحن نجد في هذه السورة أيضاً الملامح الخاصة بشخصية الأمة الإسلامية ، التي تميّزها عن شخصية المعتنقين للديانات ‏السماوية الأخرى وخصوصاً اليهودية والنصرانية .

مقياس تسمية السورة القرآنية

وقبل أن نتحدث عن البرنامج الحضاري الذي نستخلصه من هذه السورة المباركة ، نود أن نقف قليلاً عند كلمة ( المائدة ) التي سميت السورة بها ، بل لماذا سميت السور القرآنية ـ أساساً ـ بالأسماء المعروفة عنها ؟
إن اللَّه تبارك وتعالى ينتزع أسماء السور من الواقع ، وبالذات من أكثر الحقائق والظواهر إثارةً في هذا الواقع ؛ فعندما يحدثنا القرآن الكريم في سورة ( البقرة ) عن التقوى ، ودورها في بناء شخصية الفرد والمجتمع ، فإنه على الرغم‏من ذلك يطلق عليها اسم ( البقرة ) لأن قصة أصحاب البقرة قصة مثيرة ، وهي تتكرر في حياة المجتمعات ،حيث أن أغلب الناس يزعمون أنهم متدينون ، وأنهم ليسوا منافقين بالمعنى المعروف عن النفاق ، ولكنهم ـ في نفس ‏الوقت ـ ليسوا مؤمنين بالمعنى الحقيقي للإيمان ، وإنما هم عناصر تحب أن تكون مؤمنة ، إلا أنهم ـ في ذات الوقت ـ يحاولون الالتفاف حول الدين ، والقيم ، والأحكام ، وخصوصاً تلك التي تبدو صادقه وحاسمة وشديدة الوقع عليهم . ولذلك فقد أطلق اسم ( البقرة ) على هذه السورة المباركة استناداً إلى الفكرة المستوحاة في قصة بني إسرائيل‏ المعروفة .
وهناك سورة مباركة أخرى تحدثنا عن القيادة الإسلامية التي تمنح المسلمين الانسجام والتكامل والتفاعل ، وقد أطلق‏على هذه السورة ( آل عمران‏ ) ، لأن وجود القيادة النزيهة الطاهرة المختارة من قبل اللَّه جل وعلا هو ركيزة وحدة الأمة ، ولذلك سميت هذه السورة ب ( آل عمران‏ ) . أمّا السورة التي تحدثنا عن المجتمع الإنساني وخصوصاً المجتمع الإسلامي فتحمل اسم ( النساء ) ، ذلك لأن ‏الموقف من المرأة هو سمة أساسية في حضارة المجتمعات ، وفي تقدمها ، أو تخلّفها .

التوجيهات الحضارية في سورة المائدة

والسورة التي نحن بصددها ـ أعني سورة المائدة ـ فإنها سميت باسم المائدة التي نزلت على بني إسرائيل في عهد النبي‏ عيسى‏عليه السلام .
والمائدة ـ هنا ـ لا تعني الخوان الذي ينضد عليه أنواع الطعام والشراب ، بل إنها تعني ـ بمفهوم أشمل ـ ما يسترزق ‏الإنسان به ، أو ما يستريح له من طعام وشراب ، أو ما يسبّب الرفاه له .

في الآيات الأولى من هذه السورة المباركة تطالعنا فكرتان

1 ـ نموّ التعاون .
2 ـ النهي عن مجموعة من المحرمات ؛ كأكل الميتة ، والمتاجرة بالقمار ، وأنواع السحت .
ترى ما هي العلاقة بين هاتين الفكرتين من جهة ، وبين بناء الحضارة الإنسانية المتطوّرة من جهة أخرى ؟
الجواب ؛ إن الحضارة هي الحضور ؛ أي تفاعل الإنسان ، وتعاونه مع نظيره الإنسان ، وهذا التفاعل والتعاون قائمان على‏أساس قانون ؛ إذا التزم به الجميع فإن التعاون سيسير بانتظام وتصاعد ؛ أما إذا لم يلتزموا به ، فإن التعاون لا يلبث أن‏يتحوّل إلى فوضى .
وقد تضمنت سورة المائدة جملة بنود للحضارة ، ونذكرها كما يلي :

1 ـ الالتزام بالقانون‏

ولذلك نجد في الآية الأولى من سورة المائدة أن اللَّه تقدست أسماؤه أمر بالالتزام بالقانون في قوله : ﴿ … يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ … ﴾ 2. وهذا هو البند الأول من البرنامج الذي سبقت الإشارة إليه ، فعلى الجميع ‏أن يلتزموا بالقانون ، ويفوا بالعقود التي تمثل القوانين والالتزامات التي يضعها الإنسان في مجال التعامل مع غيره ، أياً كان نوعها .
وهناك من العقود ما هو تجاري ، وما هو اجتماعي ، ونحن جميعاً سمعنا بنظرية العقد الاجتماعي التي تحاول أن تصوغ ‏النظام السياسي للمجتمعات ، فهي قائمة على فكرة أن الإنسان حرّ ولكنه قادر على أن يربط نفسه بعقد ، فيكون ملتزماً به ولا يجوز له أن يتحلل منه ، وتقرّر هذه النظرية أن السلطة السياسية تقوم على هذا الأساس ؛ أي على أساس أن‏العلاقة بين أفراد المجتمع والسلطة الحاكمة تقوم من خلال عقد سياسي .
وبناءً على ذلك ، فإن الركيزة الأولى للمجتمع المتحضّر هي الالتزام بالعقود والمعاهدات كما يقول تعالى : ﴿ … يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ … ﴾ 2.

2 ـ اجتناب المحرّمات‏

وأما عن البند الثاني يقول القرآن الكريم : ﴿ … أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ 2.
وبعد ذلك يذكر لنا القرآن مجموعة من المحرمات ، وهنا علينا أن نلاحظ نوع هذه المحرمات ، فهي من النوع الذي لابد من‏تثبيته لتصفية الحضارة من الطفيليات . فهناك من المجتمعات من هو مبتلى بالطفيليات كما هو الحال بالنسبة إلى الإنسان ؛ بمعنى أن هناك بعضاً من أفراد المجتمع يعملون ، ولكن هناك مجموعة منه تعيش عالة على غيرها ، مثل الإنسان المرابي‏الذي يجلس في بيته وفي نهاية الشهر أو السنة تأتيه الأرباح والفوائد دون أن يبذل أي جهد ، وفي الحقيقة فإن هذه‏الأرباح مبتزّة من جهد سائر أفراد المجتمع .
والنموذج الآخر من المحرمات التي نهى عنها الإسلام هو الأطعمة الخبيثة التي يشير إليها تعالى في قوله : ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ … ﴾ 1.
إن هذه المجموعة من المحرمات هي من نوع آخر فهي ليست من الطفيليات ، بل هي من أنواع المحرمات التي لو شاعت ‏في المجتمع فإن روح التكاسل ، والتقاعس سوف تنتشر فيها . فالإسلام يطلب من الإنسان القادر الذي يمتلك النشاط والقوة أن يعمل ، كأن يزرع الأرض ، أو يصطاد الحيوانات الحيّة المحلّلة ، وينهاه بشدة عن أكل الميتة ، أو ما يتبقى من لحوم‏الحيوانات بعد أن تأكلها الحيوانات المفترسة ، أو الحيوانات الميتة نتيجة تعرضها لحادثة من الحوادث كالسقوط والنطح‏ و القتل . . كل ذلك لكي ينمي في الإنسان روح العمل والنشاط وعدم الاتكال على الغير . فالحضارة التي تقوم على‏أساس تلك الصفات السلبية هي حضارة منهارة لا محالة ، بينما الحضارة المثلى لابد من أن تقوم على أساس النشاط والاجتهاد والسعي .
ونحن نستطيع من خلال ذلك التحريم أن نستوحي بصيرة ورؤية خاصة بطبيعة الاقتصاد في المجتمع الإسلامي ، تقوم‏على أساس لغو كل نوع من أنواع العمل الكاذب . ونحن إذا درسنا تأريخ الحضارات الناجحة رأينا أن تلك الحضارات لم‏تكن لتقوم وتزدهر لو كان فيها مجموعة من تلك الأعمال الكاذبة ، فكلما استطعنا أن نحذف الوسائط ونلغيها كلّما استطعنا أن نقترب من المفهوم الحقيقي للحضارة .

3 ـ الإقبال على الطيّبات‏

البند الثالث يشير إليه سبحانه في قوله : ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ … ﴾ 3. هذا هو شعار المجتمع الإسلامي ، والحضارة الربانية ، وتفسير ذلك أن النفس البشرية تعتريها حالتان هما ؛ حالة الانغلاق ، وحالة الانبساط . فحالة الانغلاق تساوي حالة التخلّف ، أما حالة الانبساط فتعادل حالة التحضّر .
ونحن نعلم أن الغالبية العظمى من البشر تسودهم حالة الرهبة والخوف من بعض الأشياء والظواهر المحيطة بهم ؛ أي أنهم ‏يمتلكون نظرة تشاؤمية تجاه ما حولهم ، وإذا ما درسنا تأريخ الشعوب البدائية وجدنا أنها كانت تعبد الظواهر الطبيعة المخيفة الموجودة في بيئتها كالبحار والأنهار ، والأصوات الغريبة ، والصواعق . . لأنهم كانوا يخافون منها ، ومن أجل أن ‏يأمنوا شرها ـ حسب زعمهم ـ فقد كانوا يعبدونها .
وعلى هذا الأساس ؛ فإن الإنسان عندما يكون بدائياً متخلّفاً فإننا نراه يهاب ويخاف كل شي‏ء ، ونراه يعمد إلى تحريم‏كثير من الطيبات والأرزاق على نفسه ، بل إن الأصل عنده هو الحرمة ، أما الحلّية فإنها استثناء بالنسبة إليه ، ولذلك فإن ‏الناس في ذلك العصر سألوا النبي ‏صلى الله عليه وآله وسلم قائلين : ( ماذا أحل لهم‏ ) ولم يقولوا : ( ماذا حرّم عليهم‏ ) لأنهم يعتقدون أن كل شي‏ء حرام باستثناء أشياء معدودة .
أما القرآن الكريم ؛ فقد أعطاهم القاعدة العامة في ذلك ، فقال : ﴿ … قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ … ﴾ 3، وقدّم لهم قاعدة : ( كل شي‏ء حلال حتى تعلم أنه حرام‏ ) ، شريطة أن تكون ( الطيبات‏ ) هي المدار في الحلّية ، ذلك لأن الإنسان إذا اندفع معتقداً بأن كل شي‏ء حلال فعله يعمّم اعتقاده هذا حتى على الخبائث ، وهذا مما لا يجوز ،وعليه في هذه الحالة أن يعود إلى عقله وضميره ووجدانه .
وعليه ؛ فإن الإقبال على الطيّبات وتجنب المحرمات هما بند أساسي من بنود الحضارة التي أشار إليها تعالى في قوله : ﴿ … قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ … ﴾ 3؛ أي الاستغلال الصحيح للطبيعة وما فيها ، والقرآن الكريم يفتح لنا الآفاق الواسعة في‏هذا المجال .

4 ـ النظرة الإيجابية إلى المتعة الجنسية

بعد أن يقرر اللَّه سبحانه وتعالى أصل الحلّية في الاستفادة من نعمه ، يصل بنا إلى بند آخر هو بند النظرة الإيجابية إلى ‏المتعة الجنسية . فالإنسان المتحضّر من المفروض فيه أن ينظر نظرة إيجابية إلى متعة الجنس في حدودها الشرعية والطبيعية ، في حين نرى أن الإنسان البدائي المنغلق على نفسه يتصور خطأً أن التمتّع مع الجنس الآخر هو جزء من الحرام ‏إلا في حالة الاضطرار ، ونحن نرى هذه الظاهرة لدى بعض الديانات إذ تحرّم على رجال الدين ممارسة العلاقة الجنسية .
أما الإسلام ؛ فيفتح أمام الإنسان الأفق في هذا المجال موضحاً أن العلاقة الجنسية في حدودها الشرعية لا ضير منها ؛ بل‏إنها تعتبر واجبة في بعض الأحيان كان يشعر الإنسان بأنه سيندفع إلى ارتكاب المحرّم في حالة عدم زواجه .
وبناءً على ذلك ؛ فإن ممارسة العلاقة الجنسية تعد أمراً طبيعياً من وجهة النظر الإسلامية إذا ما تمت على ضوء أحكام‏ الشريعة الإلهية ، وأن ليس هناك من داعٍ إلى أن يشعر الإنسان بتأنيب الضمير والكآبة بعد ممارستها ، فقد أثبت علم‏ النفس والتربية الحديث أن شعور الإنسان بالندم والكآبة بعد ممارسته للجنس يعد حالة غير طبيعية ناجمة عن عوامل ‏تربوية خاطئة .
وقد أشار سبحانه إلى هذا البند المهم من بنود الحضارة في قوله بعد أن يوضح أن طعام أهل الكتاب حلّ للمسلمين ‏وبالعكس : ﴿ … وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ 4.
ونحن نستوحي من هذه الآية الكريمة أن التعامل مع الجنس يتم خلال مرحلتين ؛ المرحلة الأولى باعتباره ضرورة ، والمرحلة الثانية بوصفه أكثر من ضرورة . وحسب ما يبدو لي فإن الآية تحدّثنا عن هذا الجانب ، فهي لا تقرّر أن الجنس‏ هو ضرورة اجتماعية فحسب ، بل يجب أن يتحول إلى متعة بريئة طاهرة ، فيكون هناك عقد ، ويكون هناك دفع للأجور ، وأن يكون بريئاً من السفاح واتخاذ الأخدان . ونحن إذا درسنا تأريخ الحضارات ، فأننا سندرك أن هذا البند يمثل نوعاً من التقدم فيها .

5 ـ الالتزام بالنظافة

إن النظافة هي من أصول الحضارة الإسلامية ، فعلى الواحد منا أن لا يتصور أنه يقوم بعمل دوني وضيع عندما يعمد إلى‏تنظيف الوسط الذي يعيش فيه ، بل إن هذا العمل هو من صميم دورنا في الحياة ، والقرآن الكريم يرفع مستوى التنظيف ‏إلى درجة بحيث يجعله في بعض الأحيان من الواجبات المقدسة كما يشير إلى ذلك تعالى في قوله بعد أن يأمر بالتوضؤ قبل الصلاة : ﴿ … مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ 5.

الحضارة مجموعة من القيم السامية أولاً

وفي نهاية هذا البحث لابد أن نذكّر بأن الحضارة ليست مجرد تقنية ، وتكنولوجيا ، وتوفير للوسائل الترفيهية ، بل هي‏قبل كل شي‏ء مجموعة من القيم الرفيعة السامية التي يلتزم بها الإنسان ، ومن هذه القيم ؛ القيم الجمالية ، فالإنسان الذي لا يستطيع أن يتذوق مظاهر الجمال في الحياة ليس جديراً بأن يكون متحضراً . فنحن إذا أردنا أن نصل إلى مستوىً‏ حضاريّ رفيع ، فلابد من أن نهتم بالجوانب الجمالية كما نهتم بالجوانب الأساسية في حياتنا ، وأن لا نقصر اهتمامنا على‏الجوانب المادية من الحضارة فحسب ، فنتصوّر إن الحضارة هي التقدم في الجانب التكنولوجي والعلمي فقط ، بل علينا ـ بالإضافة إلى ذلك ـ أن نهتم بالمظهر ، وأن نحرص على تكريس المظاهر الجمالية في حياتنا ، كالاهتمام بالنظافة ، والسعي‏من أجل أن نكون منضبطين ومنظمين في جميع أمورنا ، لأن النظام بحد ذاته ـ مظهر من مظاهر الجمال التي من شأنها أن ‏تجعل حياتنا جميلة مشرقة في ظاهرها وفي باطنها ، علماً إن الإسلام قد وجّه اهتمامنا إلى هذه الناحية في نصوص كثيرة في نفس الوقت الذي لفت أذهاننا فيه إلى ضرورة تحقيق التقدم في المحتوى والمضمون .

الإسلام ضمانة الحضارة المنشودة

الحضارة الفضلى الرفيعة التي تصبو إليها الإنسانية المعذبة ، والتي وعد بها الإسلام ، وبشّرت بها رسالات اللَّه سبحانه‏ و تعالى ، هذه الحضارة ترتسم لنا تباشيرها في سورة المائدة الكريمة ، وهي خاتمة السور القرآنيّة التي نزلت على قلب ‏نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وإذا ما أمعنّا النظر وتدبّرنا في المعنى العميق لكلمة ( المائدة ) لوجدنا أنها تجسّد لنا معاني السعادة الإنسانية ،والأمن ، والاستقرار ، وراحة النفس والروح ، ذلك لأنّ ظلالها وامتداداتها أوسع وأكبر من مصطلح الحضارة ، ومفهوم‏ ( المدنيّة ) ، حيث أنّ لهذين المصطلحين آثاراً بعيدة عن الصحة والصواب في أطر المفاهيم المادية السائدة ، والرؤى السطحية للحياة المعاصرة .

الإسلام روح الحضارة

إنّ الحضارة الحقّة التي تفي بمعنى تلك الكلمة ، هي التي تجلّت تباشيرها في رسالة السماء الخاتمة ، كما تجلّت من قبل في‏ الرسالات السابقة ، والتي تجعل من الإنسان وتكامله محور حركتها ؛ فهي تعتمد هذا المخلوق الناطق الذي كرّمه اللَّه ‏تبارك وتعالى على كل مخلوق ، فلا تلغي دوره أو تهمل جانباً من حياته ، بل هي حضارة عدم الإفراط والتفريط في‏ جميع جوانب الحياة الإنسانيّة ، وفي أي بعد من أبعادها ؛ وهي الحضارة ذات البناء المتكامل ، وهي في داخل الإنسان‏حضارة الروح والنفس والعقل والجسم ، وهي في الحساب الزمني حضارة العصر الحاضر ، والزمن الماضي ، والمستقبل‏الآتي . ثم إنّها حضارة المعنويات السامية ، والمعاني النبيلة ، والقيم والمفاهيم الرفيعة ، وحضارة الإصلاح والإحسان ‏والازدهار والتقدم ، وهي الحلقة الرابطة بين الدنيا والآخرة ، بل هي مقدمة الحضارة الأخروية ، والمبشرة بها .
والحضارة التي ترسمها لنا رسالات السماء وخصوصاً الإسلام في هذه الدنيا هي بمثابة المدرسة التي تصنع الإنسان‏ وتصوغه ، فيتخرّج منها البشر الصلحاء الذين يصبحون أهلاً لحضارة الآخرة .

الدعوة السامية إلى البناء الحضاري‏

ومن بين ثنايا السورة المباركة نفهم وندرك الدعوة السامية إلى البناء الحضاري القائم على الركائز والأسس الإلهية التي‏ تضمّنتها كل رسالات السماء ؛ فلو كان الذين اتبعوا النبي عيسى بن مريم‏ عليه السلام قد أخلصوا في اتباعهم ومناصرتهم له ، ولو أنّهم أخذوا بالإنجيل طبقاً لما هو في الأصل ، وطبّقوه في حياتهم وانتهجوا خطوطه في مسالكهم ، ولو أنّ الذين سبقوهم ـ أعني أتباع النبي موسى‏ عليه السلام ـ أخذوا بالتوراة كما أنزلها اللَّه سبحانه وتعالى ، بلا تحريف ، ولا إضافة ، ولا تزييف ، ولو كانوا قد تجنّبوا الداء الذي مزّق شمل ووحدة الإنسانية في أطر الأفكار الضيقة و الأطروحات الاستعلائية الجاهلية . . لو أنّهم فعلوا كل ذلك لاعتُرف بهم من وجهة النظر الإسلامية والمنظار القرآني شريطة أن يطهّروا عباداتهم وتشريعاتهم‏من تلك الأفكار والمفاهيم الدخيلة التي تشربت ونفذت إلى معتقداتهم ، كفكرة الحلول والخلوص في المسيحية ، وفكرة العنصرية التي دخلت في اليهودية .
ونحن نلحظ ونلمس في الآيات القرآنية إشارات واضحة وعديدة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن الإسلام زرع لنا بذور الأمل والبشرى بقيام حضارة الإنسان المتكامل ، ومن تلك الإشارات الواضحة قوله عز من قائل : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ 6.
وفي آية أخرى من سورة آل عمران يقول سبحانه و تعالى : ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ 7.

هل تحققت الحضارة التكامليّة ؟

وقد يعترض معترض في هذا المجال فيقول : إنّ شيئاً بمعنى ( الحضارة التكاملية ) لم يتحقق على يد الرسل‏ والأنبياء على امتداد التأريخ الطويل ، ولم نلمسه نحن حتى الآن ، علماً أن ألفاً وأربعمائة عام أو يزيد قد انطوت على عمر الرسالة الخاتمة . ولكنني أقول جواباً على هذه الشبهة إن هذه المدّة ليست بالزمن الذي يذكر عندما نقارنه بالآلاف ‏المؤلّفة من السنين في عمر الرسالات المديد ، وعمر الإنسانية على هذه البسيطة . فالإنسان ربما عاش على هذه الأرض‏كما يرى ذلك علماء الجيولوجيا والتاريخ ـ منذ أربعة ملايين عام ـ على تقدير البعض ، و ربمّا يستمرّ في بقائه عليها إلى‏ ملايين أخرى . . . ولكن نظرتنا السطحية واستعجالنا للأمور ، سببهما أعمارنا الضئيلة قياساً بتلك المدة المتطاولة .
ونحن لنا رؤية أعمق وأوضح في هذا المجال تختلف عن الرؤى الأخرى ، فعمر الإنسان وحياته على هذه الأرض أطول ‏بكثير مما قيل ، ودليلنا على ذلك قول الإمام علي بن أبي طالب‏ عليه السلام : ( وقروناً بين ذلك كثير ) 8 . ثم إن ما يدعم نظرتنا واعتقادنا هذين ، هو ما تم اكتشافه في بعض الحفريات والآثار ، حيث قدّر فريق من العلماء أن وجود الإنسان على كوكب الأرض يعود إلى ما قبل مليون عام !!
ولو نظرنا إلى تاريخ البشرية على الأرض منذ أهبط اللَّه تعالى آدم عليها ثم المضيّ نحو المستقبل الممتد البعيد ، فافترضنا ـ جدلاً ـ أن كل هذا التاريخ هو بمثابة يوم واحد ، لوجدنا أن هناك طفرات هائلة في مقاطع متقاربة جداً ومتداخلة من‏هذه المسيرة . وبعبارة أخرى ؛ لرأينا أنّ مسيرة التقدم الحضاري تتصاعد بشكل متسارع ، فلو أردنا قياس عمر هذا التطوّر الإنساني وافترضناه يوماً واحداً فسوف يتضح لنا هذا التقدّم بالشكل التالي : في الساعات الأولى لم يكن‏الإنسان يعرف شيئاً ، وكان طبعه كطبع الحيوانات الوحشية ، ثم في الساعة الخامسة من هذا اليوم اكتشف الإنسان النار ،وبعدها بساعة اكتشف الزراعة ، ثم بعدها بساعة أو ساعتين ظهرت الحياة الاجتماعية ، وأقيمت المدن والقرى ، وبعد بضعة دقائق من تلك الساعة أقيمت الحضارات ، ثم اخترعت الماكنات والآلات ، وقامت الثورة الصناعية ، وبعد بضع‏ ثوان صنعت المركبات الفضائية ، وتم غزو القمر . . . وهذه هي حركة التقدم البشري ، فهي بصورة متوالية هندسية معكوسة بالنسبة إلى العمر الزمني ؛ أي إنّ الإنسان استغرق سنين طوالاً ربما كانت قروناً حتى اكتشف النار ، ولكن ‏المسافة الزمنية بين اختراع الماكنة البخاريّة واكتشاف الذرة لم تكن إلاّ قرنين ، ثم ما هي إلاّ عشرات من السنين حتى وطأت قدماه أرض القمر . . وهذه هي مسيرة البشرية ، وانطلاقها السريع نحو الأمام .
ونحن لو أمعنّا النظر مرة أخرى في الفترة الزمنية الأخيرة التي شهدت هذا التقدم الهائل والقفزات السريعة لوجدناها أنها إنّما حدثت بعد أن بُعث النبي عيسى ‏عليه السلام ، ثم نشطت بزخم أقوى بعد بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا إن دلّ على شي‏ء فإنّما يدل على أنّ رسالة الإسلام ، والمؤمنين الحقيقيين بها هم أصحاب البشارة الحقيقة ، والقفزات ‏الكبرى المترقبة .

الحوار بين الحضارات الإلهية

﴿ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ 9.
كانت الحياة خلية واحدة ثم نمت وتكاثرت وتنوعت . هكذا يقول علماء التاريخ .
فالحضاري في البدء كانت كلمة طيبة ثم أخذت بالنمو حتى أصبحت شجرة وارفة الظلال كثيرة الثمار عظيمة الفوائد . وهذه الحضارات الكبرى التي تضرب بها الأمثال عبر التأريخ لم تكن سوى كلمات طيبة في صدور أولي الذكر ، ثم‏تطورت وتنامت وازدهرت فأصبحت حضارة يشار إليها بالبنان .
وكما كان أصل الحياة من اللَّه الخالق المبدع سبحانه وتعالى الذي يخرج الحي من الميت ، كذلك كانت الكلمة الطيبة جذر الحضارة البشرية .
وقد تتفاوت مفردات التعبير عن هذا الاصطلاح ، حيث يحلو للبعض من علماء التاريخ أن يعبروا عن أساس وجذر الحضارة بكلمة الفكرة الحية ويعادلون بها كلمة ( الخلية الحية ) حيث تتكاثر وتتنوع حتى تصبح حياة بأنواعها ، كذلك الفكرة الحية تتكاثر وتتنوع فتصبح حضارة .
ولكنني أفضل الاستفادة من التعبير القرآني الأدق والأصح وهو ( الكلمة الطيبة ) استيناساً بقوله سبحانه‏ و تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴾ 10. وإذا أردنا تعبيراً مناسباً لفكرة الحضارة ، فأظن أن أرجح تعبير عن ذلك هو كلمة ( المائدة السماوية ) .

ولعل الأسباب الكامنة وراء اختيار هذه التسمية هي:

1 ـ إن مفردة الحضارة مستمدة من الحضور ، بمعنى أن يكون هناك أناس حاضرين إلى آخرين حاضرين . وبعضهم‏ يسميها بالمدينة ، إذ المجموع يجتمع في مدينة واحدة . وكان العرب من قبل يميزون بين الحضارة وغيرها على هذاالأساس ، حتى قال شاعرهم :
ومن تكن الحضارة أعجبته‏ *** فأي رجال بادية ترانا
نظراً إلى أن البدو في الصحراء القاحلة لا يجتمعون على شي‏ء ، خلافاً للحاضرين في المدينة . وعلى هذا الأساس فإن‏الحضارة والمدنية شي‏ء واحد ، باعتبار أن المدنيين يجتمعون إلى بعضهم ، فلا حضارة دون مدينة ، ولا مدينة دون‏حضارة .
2 ـ لما كان الحضور والاجتماع هو الأساس ، فهل يمكن تصور حضور واجتماع دون محور مشترك أو داع مقنع ؟
والجواب هو النفي قطعاً ، إذ الناس لا يجتمعون ولا يحضرون في مكان واحد صدفة ؛ فقد يكون الماء ـ الذي هو وجه‏ الحياة ـ أو التجارة أو الفكرة أو المسجد أو . . أساس حضورهم . وحينما ندرس تاريخ المدن نكتشف بأن كل مدينة قد تأسست بسبب محور ما ؛ فمثلاً كانت الجزيرة العربية قليلة المياه ، وكان الناس يجتمعون حول الماء أينما وجدوه ، ثم ‏يتكاثر الجمع حتى يشيدوا مدينة وحضارة . . ولم تكن مدينة مكة المكرمة استثناء عن هذه القاعدة ، حيث شيدت على‏ أساس بئر زمزم التي تفجرت تحت قدمي النبي إسماعيل‏ عليه السلام ، ثم تكرست مدنية الجمع بعد أن شيد النبي إبراهيم ‏عليه السلام بيت ‏اللَّه الحرام ، فأصبحت مدينة مكة المكرمة محوراً حضارياً لكافة المدن في الجزيرة العربية آنذاك .

الحضارة روح وجسد

وبعد كل ذلك علينا الإجابة عن هذا السؤال المهم ، والخطير جداً ، وهو : ماذا يحدث لو اختلف أفراد الحضارة إختلافاً معنوياً ؟
إن ما يضمن استمرار المدنية هو القيم والمقدسات الصالحة لا غير ، وقد جاء في الحديث النبوي المروي عن الإمام ‏الباقر عليه السلام ، يقول : ( وإنَّ اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها ) 11 بمعنى أن‏البلاد التي تنعدم فيها القيم والقوانين ستتحول بمرور الزمن إلى أرض خاوية ، فكان لابد من فكرة وقانون ونظام‏ ورؤية وإيمان تحول دون التفكك وتحفظ للمجتمع ذمته واحترامه وأمنه واستمراره في الحياة ؛ أي إن الناس إذا اجتمعوا وحضروا لمجرد وجود الماء دون إطار قانوني أو محتوى فكري ، فإن اجتماعهم هذا سرعان ما ينتهي إلى الاختلاف ‏والتناحر والتفرق والخراب ، فتصبح البلاد بلقعاً .
ومن هذه الفكرة استمد علماء التاريخ والحضارة كابن خلدون وتوينبي وآخرون مقولة إن الحضارة أساسها فكرة قبل‏أن تكون مصلحة مادية ، أو إن المصلحة المادية تحتل مرتبة متأخرة عن الأساس الفكري للحضارة .
ونحن نقول : إن الحضارة كلمة طيبة مصدرها اللَّه تبارك وتعالى ، لأن اللَّه هو الطيب وهو الخير ، وهو الذي يخلق الخير والجمال ، أما الإنسان فهو ربيب الدنيا والشهوة والمصلحة إذ منع على نفسه الخير والجمال .
إذن ؛ فالكلمة الطيبة من اللَّه سبحانه وتعالى ، واجتماع الناس لابد أن يكون حول شي‏ء ينزل من السماء ليسمو بهم إلى ‏الأعلى ، ونسمي ذلك بالمائدة السماوية التي لا تعني مجرد الأكل والشرب ، حيث قد يتحققان بمجرد تناول قرص رغيف ‏و جرعة ماء . . بل المائدة المقصودة سفرة ممدودة وخوان متسع يجتمع الناس حوله ليأكلوا ويشبعوا من طيبه السماوي ‏المقدس .

مائدة من السماء

ولذلك نجد أن سورة قرآنية كاملة ، وهي آخر سور القرآن الكريم التي نزلت على صدر نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي التي ‏تنسخ سائر السور ولا ينسخها شي‏ء ، قد سميت باسم سورة المائدة ، وذلك لقصة تأريخية محورها نبي اللَّه عيسى بن مريم‏ عليهما السلام والحواريون الذين نصروا نبيهم وكانوا بيضاً في ظاهرهم وباطنهم ، حيث اجتمعوا حول نبيهم قائلين له : ﴿ … هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ … ﴾ 12. وهذه المقولة رمز لتلكم الفكرة الجميلة التي تتنزل من‏السماء فيجتمع الناس حولها .
ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى أن تساؤل الحواريين بقولهم هل يستطيع ربك لا يعني تشكيكهم أو كفرهم بقدرة اللَّه ‏سبحانه وتعالى ، بقدر رغبتهم في معرفة هل أن ما يطلبونه مناسب إلى اللَّه . . .
وكان أول شي‏ء واجههم به النبي عيسى‏عليه السلام هو قوله : ﴿ … اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ 12أي أنكم إذا كنتم تريدون‏ مائدة من السماء فعليكم بالتمحور حول مبدأ وثقافة التقوى التي هي أفضل مائدة وأطيب كلمة .
ولم يكن أمام الحواريين الذين تربوا في ظل الرعاية النبوية إلاّ التسليم لهذه الحقيقة الربانية ، ولكنهم في الوقت نفسه‏ تمادوا في الاستكثار من الطلب ، حيث طلبوا إلى نبيهم أن يسأل اللَّه لأن ينبئهم بقبول تقواهم وعبادتهم فينزل عليهم‏ المائدة لكي تتجسد التقوى في شي‏ء ملموس يرونه ، فكان أن قالوا :
1 ـ ﴿ … نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا … ﴾ 13ومن الطبيعي أنهم لم يكونوا جياعاً حتى يطلبوا أكلاً لمجرد إشباع بطونهم ، بل إن‏ الأكل من المائدة السماوية الإلهية ليتجسد لديهم رمز المحبة بينهم وبين اللَّه . وبعبارة أخرى ؛ إنهم طلبوا من النبي‏ عيسى‏ عليه السلام أن يحملهم إلى ضيافة اللَّه بشكل مباشر وملموس ، تماماً كما يستضيف اللَّه أمة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان ‏الكريم ، حيث يضاعف اللَّه على المسلمين بركاته ونعمه ورحماته في شهر الصيام .
2 ـ والأهم من الأكل الظاهري هو أنهم قالوا : ﴿ … وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا … ﴾ 13 إذ نحن ـ الحواريون ـ مؤمنون بأنك روح ‏اللَّه وكلمته وأن الكتاب والحكمة قد أنزلها اللَّه عليك ، ولكننا نريد تكريس هذا الإيمان . فأن يسعى المرء إلى حقيقة يطمئن إليها قلبه ، فإنه في واقع الأمر يسعى إلى هدف مقدس .
3 ـ وبعد اطمئنان القلب ؛ قلب الحوارين لنبيهم ﴿ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ 13فإنك ـ يا نبي اللَّه ـ حينما بشرتنا بالجنة ، نريد أن نرى شيئاً منها على هذه الأرض ، وهذه كلها رموز لها مصاديقها ، تماماً كما بشر رسول اللَّه ‏صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين بالجنة وبشرهم أيضاً بأنهم ‏سيكونون ملوكاً في الأرض أيضاً ، وقد تحقق لهم ذلك ، فصدقهم الرسول .
4 ـ وحينما يطمئن القلب ، ويتضاعف الإيمان بمزيد من العلم ، وتشبع البطن ، ويقوى الجسم ، هنالك يتوجب على المرء أكثر من أي وقت مضى أن يقوم بدوره التأريخي ، فيكرس كل جهده ليرفع راية كلمة السماء الطيبة ، فيشهد لها بين‏ الناس ويحثهم على اتخاذها محوراً في حياتهم .
5 ـ وحينما اطمأن النبي عيسى‏عليه السلام إلى عهدهم دعا ربه بقوله : ﴿ … اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ … ﴾14نظراً إلى أن إطمئنان القلب وتضاعف الإيمان وقوة الجسم يعني تجدد الحياة ، وهذا هو معنى العيد والعودة إلى ممارسة الواجبات وتحقيق المسؤوليات . وها هم المسلمون حينما يلتزمون بواجبات ‏شهر الصيام ويستوعبون القدر الممكن من حكمته فإنهم يحتفلون بالعيد ، ليس لانتهاء أيام هذا الشهر الكريم ، وإنما لأنهم تزودوا منه بخير الزاد ، فتراهم يعودون إلى تحقيق وتطبيق ما تعلموه من مفاهيم ربانية طيلة الشهور القادمة حتى ‏يحل عليهم شهر رمضان آخر فيعيدون الكرة من جديد . . .
ولم يكن طلب النبي عيسى‏عليه السلام ـ الناطق باسم الحواريين ـ من ربه مجرد طلباً مؤقتاً ، بقدر كونه طلبه أبدياً يعم أول ‏المؤمنين كما يعم آخرهم إلى يوم القيامة ، حيث تكون قصة نزول المائدة مبعثاً للأجيال لأن يتذاكرونها فيزداد ايمانهم‏ و حيويتهم .
6 ـ ﴿ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ 15وهذا قانون سماوي صارم لا يقبل التغيير والتبديل مطلقاً .
بعد هذه الاطلالة القرآنية على ما دار بين النبي عيسى‏عليه السلام وحواريه ، لابد أن نقول : إن النبي عيسى‏عليه السلام وقصته ليس‏ للمسيحيين فقط ، كما أن النبي موسى‏عليه السلام وسيرته ليسا حكراً على اليهود ؛ بل وحتى رسول اللَّه‏ صلى الله عليه وآله وسلم ليس للمسلمين ‏فقط ، وإنما هو رحمة للعالمين .
إن أساس الحكمة الربانية من بعثة النبي عيسى خصوصاً والديانة المسيحية عموماً إنما يكمن في التبشير بخاتم الأنبياء و الرسل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد قال اللَّه تعالى في ذلك : ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ 16. فكان دوره الأول البشارة ودوره الأخير هو البشارة أيضاً ، حيث سيأتي يوم ينزل اللَّه‏ فيه النبي عيسى‏عليه السلام من جديد ليبشر الناس بظهور الإمام الحجة المهدي عجل اللَّه فرجه الشريف ، وهذه هي حكمة خلقة وبعثة النبي عيسى‏عليه السلام .
وعليه فإن الديانة المسيحية ليست إلاّ تمهيداً للديانة الإسلامية ؛ أي ان الديانة المسيحية كلما توسعت كلما تضاعفت ‏فرص انتشار الدين الإسلامي ، لذلك تجد القرآن الكريم يذكرنا بأن أقرب الناس إلى المسلمين هم . ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ 17لأن فيهم قسيسين يقرؤون الكتاب ويصبحون ‏من ذوي العلاقة بالإسلام .

الحضارة الحقيقية

إن الحضارة الحقيقة هي الحضارة الإلهية ، ولم يتبق من نماذج هذه الحضارة سوى حضارتين ، وهي المسيحية والإسلامية ، وقد أثبتت حقب التاريخ أن ما لم يتصل بالسماء مصيره إلى الفناء الحتمي ، وقد قال غورباتشوف ـ آخر رئيس سوفياتي ـ لدى انهيار الاتحاد السوفياتي : إن سبب هذا الإنهيار هو أن الإتحاد السوفياتي لم يكن يؤمن باللَّه . والمهم هو أن هذا الكيان السوفياتي قد عاد مرة أخرى إلى الإسلام والمسيحية ، وقد سبق أن قلنا بأن المسيحية مقدمة لانتشار الإسلام .
من هنا أدعو إلى حوار الحضارتين المسيحية والإسلامية دون غيرهما ، لأنهما هما المسيطرتان على الفكر البشري ، كما أدعو إلى أن يكون جوهر هذا الحوار حول السعي نحو اقناع المسيحيين بفكرة أنهم مبشرون للإسلام ؛ فالإسلامي هو الدين الناسخ لكل الديانات ، لأنه الخاتم ، ولأنه الأحدث ، ولأنه الديانة الوحيدة التي أمنت من التحريف بفضل اللَّه ‏ورحمته .
أقول : لما كان من الخطأ على المسلم أن يطلق تسمية الحضارة على الوجودات التاريخية غير القائمة على أفكار السماء ،فإنه من الخطأ أيضاً أن يطلق على حواره معها تسمية حوار الحضارات ، فهل الحضارة هي إهرامات مصر ، أم قلاع ‏بعلبك ، أم بقايا آثار بابل وسومر وجدار الصين ؟
كلا ؛ فهذه مجموعة من نماذج البناء البشري الذي سرعان ما تهدم . . . وتهدم لأنه لم يقم على أساس الفكر الإلهي ، وإنما قام‏على أساس ظلال وآثار ذلك الفكر المقتبس من الآخرين .
فأية حضارة هذه التي تعتمد عبادة البقر في الهند ؟
وأية حضارة هذه القائمة على مبدأ العنصرية كما في اليونان ؟
وأية حضارة هذه القائمة على أساس استغلال الضعفاء والفقراء كما حصل في الصين القديمة ؟
وأية حضارة هذه ا لتي تجبر الناس على عبادة الملك من دون اللَّه كما كان شأن مصر الفرعونية ؟
فإذن ؛ العقل البشري لا يسمح مطلقاً بأن يسمي صفحات التاريخ المليئة بالظلم والطغيان والقتل والاستعباد والعنصرية بالحضارة والمدينة 18 .

  • 1. a. b. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 3، الصفحة: 107.
  • 2. a. b. c. القران الكريم: سورة المائدة (5)، من بداية السورة إلى الآية 1، الصفحة: 106.
  • 3. a. b. c. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 4، الصفحة: 107.
  • 4. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 5، الصفحة: 107.
  • 5. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 6، الصفحة: 108.
  • 6. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 69، الصفحة: 119.
  • 7. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 64، الصفحة: 58.
  • 8. بحار الأنوار : ‏6 / ‏134 .
  • 9. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآيات: 112 – 115، الصفحة: 126.
  • 10. القران الكريم: سورة ابراهيم (14)، الآية: 24، الصفحة: 258.
  • 11. بحار الأنوار : ‏71 / ‏135 .
  • 12. a. b. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 112، الصفحة: 126.
  • 13. a. b. c. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 113، الصفحة: 126.
  • 14. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 114، الصفحة: 127.
  • 15. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 115، الصفحة: 127.
  • 16. القران الكريم: سورة الصف (61)، الآية: 6، الصفحة: 552.
  • 17. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 82، الصفحة: 121.
  • 18. كتاب : الحضارة الإسلامية ، آفاق و تطلعات ، الفصل الاول : رؤى قرآنية في الحضارة .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى