مقالات

جرائم “بني قينقاع”

كانت معركة “بدر” بمثابة طوفان شديد ضدّ الوثنية في قلب شبه الجزيرة العربية.

طوفان اقتلع بعض جذور الوثنية العريقة، فقد قُتِلَ طائفة من صناديد قريش، واُسرت اُخرى وهرب الباقون بمنتهى الذل والصغار، وانتشر خبر هزيمة جيش قريش المتغطرس في جميع أنحاء وربوع الجزيرة العربية.

ولكن ساد بعد هذا الطوفان المرعب، شيء من الهدوء والمقرون بالاضطراب والقلق.هدوء كان منشأه التفكير في مستقبل شبه الجزيرة العام وما تخبئه الايام القادمة لسكانها على أثر التحول الجديد.

وكانت مخاوف القبائل الوثنية، ويهود يثرب الاثرياء ويهود خيبر ووادي القرى تزداد يوماً بعد يوم من تقدم الاسلام المطّرد، وتعاظم شوكته، واشتداد أمر حكومته الفتية، وكان جميع هؤلاء يجدون مستقبلهم مهدداً بخطر جديّ، بعد أن كانوا لا يتصورون أن يكسب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله المهاجر من مكة كلّ هذه النجاحات الباهرة، وأن يبلغ من القوة ذلك المبلغ، بحيث يقهر بقواه المحدودة قوة قريش الكبرى ويكسر شوكتها العريقة !

وكان يهود بني قينقاع الذين يقطنون داخل المدينة، ويمسكون بخيوط اقتصادها، أشدَّ خوفاً من غيرهم، واكثر قلقاً على مستقبل أمرهم، لأنهم كانوا يخالطون المسلمين مخالطة كاملة وكان وضعهم يختلف عن وضع يهود خيبر ووادي القرى الذين كانوا يعيشون خارج المدينة بعيداً عن مركز قوة المسلمين ومنطقة حاكميتهم !

من هنا بدأ يهود بني قينقاع قبل غيرهم من طوائف اليهود العائشة في تلك الديار بتدبير المؤمرات، وممارسة الأعمال الإيذائية ضدّ المسلمين والقيام بالحرب الباردة (الإعلامية) ضدّهم، وذلك بنشر الأكاذيب وبثّ المعلومات الكاذبة، واطلاق الشعارات القبيحة، وانشاد القصائد التي من شأنها الاساءة الى المسلمين وتحقيرهم، وتخريب معنوياتهم.

وبهذا يكون اليهود قد بدأوا عمليّاً بنقض معاهدة التعايش السلمي التي ذكرناها سلفاً، والتي عقدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله معهم في أبان قدومه المدينة.

ولم تكن هذه الحرب الباردة الشريرة لتبرر تصدي القوى الاسلامية لها بالحرب الساخنة، واستعمال السلاح، لأن ما يمكن حله بسلاحِ المنطق لا يحبذ أن يعالَج بمنطق السلاح، وخاصة أن الرد الساخن والمسلح يؤدي إِلى زعزعة الأمن والاستقرار في المدينة، والحال أن المحافظة على الوحدة السياسية، واستتباب الأمن والاستقرار في المدينة كان مما يهمّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله جداً وهو يواجه أعداءً أشداء من الخارج.
فلم يكن من مصلحة الاسلام والمسلمين تفجير الموقف في عاصمة الاسلام، يومئذ.

ولهذا وبغية اتمام الحجة على يهود بني قينقاع وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ذات يوم في سوقهم بعد أن جمعهم فيه ثم قال لهم:”يا معشر يهود احذروا من اللّه مِثل ما نزلَ بقريش من النقمة، وأسلموا، فانكم قد عرفتُم انّي رسول اللّه (أو أني نبي مرسَل) تجدون ذلكَ في كتابكم وعهد اللّه اليكم“.

وهنا نزل قول اللّه تعالى:﴿ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾ 1.

ولكن اليهود المغرورين المتكبرين لم يشكروا نصيحة النبي هذه أو يسكتوا حسب، بل ردوا عليه بعناد ولجاج وصلافة قائلين: يا محمّد انك ترى انا قومك لا يغرنّك أنك لقيتَ قوماً لا عِلمَ لهم بالحرب، فأصبتَ منهم فرصة، إِنا واللّه ولئن حاربناك لتعلمنَّ أنّا نحن الناس “أو أنّا واللّه أصحاب الحرب،ولئِن قاتلتنا لتعلمنَّ أنك لم تقاتل مثلنا 2.

فلم تترك كلمات يهود “بني قينقاع” الجوفاء، وتشدقهم الفارغ بقوتهم وقدرتهم على القتال والمواجهه أدنى اثر في نفوس المسلمين.

ولكن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله قد أتم عليهم الحجة، فلم يعودوا معذورين حسب السياسة الاسلامية، وقد أصبح ساعتئذ من اللازم الاحتكام إلى منطق السلاح بعد أن لم ينجع سلاح المنطق، ولم يقنع اليهود بضرورة تغيير مواقفهم، والتخلي عن مؤامراتهم وخططهم الايذائية ضد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله والمسلمين.

أجل لا بد من استخدام القوة مع هؤلاء اليهود الصلفين المتعنتين والا ازدادوا صلافة، وكثرت اعتداءاتهم.
ولهذا أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ينتظر الفرصة المناسبة لتأديب تلك الجماعة المتعنتة الوقحة.

لهيب الحرب يبدأ من شرارة
قد تجر بعض الحوادث الصغيرة إلى سلسلة من التحولات والاحداث في الاجتماعات الكبرى. يعني أن تتسبب حادثة جزئية في انفجار الحوادث الكبرى، فيصفي كل من طرفي النزاع حسابه مع الطرف الآخر، انطلاقاً من علل واسباب اُخرى، وليست تلك الحادثة الجزئية.فللمثال نشأت الحرب العالمية الاولى وهي أحدى اكبر الحوادث التاريخية في حياة البشر من حادثة صغيرة تذرعت بها الدول الكبرى، وتلك الحادثة الصغيرة التي اشعلت فتيل الحرب العالمية الاولى هي اغتيال “الارشيدوق فرانسيز فريديناند” ولي عهد النمسا في سراييفوا.

فقد وقعت هذه الحادثة في 28 من شهر يونيو عام 1914 وبعد شهر وعدة أيام بدأت الحرب العالمية الاُولى بهجوم الالمان على بلجيكا، وافرزت هذه الحرب المدمرة الشاملة عن مقتل عشرة ملايين وجرح عشرين مليوناً من البشر3.

ولقد انزعج المسلمون من صلافة يهود بني قينقاع، وردهم الوقح على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو يخاطبهم بأدب ينصحهم، وكانوا يتوقعون أن يقوم اليهود بعمل عدائي ليثورا ضدهم، ويؤدبوهم.وبينا هم على هذه الحال إِذ تعرضت امرأة من العرب لاعتداء من اليهود فاشعل هذا الحادث الموقف.

واليك مفصل تلك الحادثة
جاءت امرأة من العرب الى سوق بني قينقاع فجلست عند صائع تبيع حليّاً لها أو تشتري، وكانت تبالغ في ستر وجهها عن اليهود، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت فعمد رجلُ من يهود بني قينقاع إِليها وجلس من ورائها، وهي لا تشعر فعقد أسفل ثوبها إِلى ظهرها، فلما قامت المرأة بدت عورتها، فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين الى ذلك الرجل اليهودي فقتله، فاجتمعت بنو قينقاع، وشدّوا على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهلُ المسلم القتيل المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون غضباً شديداً.

ولقد كان من الطبيعي أن يثبت الرجل المسلم على ذلك اليهودي الوقح الشرير الذي فعل بالمرأة العربية ذلك الصنع، فان قضية “الأعراض” قضية حياتية وحساسة في أي مجتمع، فهي قضية شرف، وقد كان هذا الأمر يحظى في المجتمع العربيّ خاصة بأهمية كبرى، وخاصة عند البدو الرحل منهم، فكم من دماء جرت لعدوان على عرض ديس أو تعرض للتحرش.

من هنا أزعج وضع تلك المرأة الغريبة وحالها المؤلم واضطرابها الرجل المسلم، وأشعل غيرته فوثب على اليهودي المعتدي وقتله.
وكان من الطبيعي أيضاً أن لا يمرّ هذا العمل دون رد من اليهود فيثب اليهود بأجمعهم على ذلك المسلم الغيور ويقتلوه، ويريقوا دمه بأجمعهم.نحن هنا لايهمنّا أن نعرف أن قتل ذلك الرجل اليهودي لازدرائه بامرأة كان أمراً صحيحاً منطقياً يتفق مع الموازين أم لاينطبق.ولكنّه ما من شك في أن وثوب مئات من الرجال واجتماعهم على قتل رجل مسلم واحد، وإِراقة دمه، عمل بالغ الشناعة والقبح.

من هنا تسبّب انتشارُ هذا الخبر (اي مقتل رجل مسلم واحد على أيدي مجموعة كبيرة من الرجال بصورة مفجعة) في إِثارة المسلمين ونفاد صبرهم، ودفعهم إِلى العزم على حسم الموقف حسماً كاملاً وبالتالي هدم قلعة الفساد على رؤوس أصحابها القتلة.

فأحسّ “بنو قينقاع” بخطر الموقف، وأدركوا انه لم يعد من الصالح أن يبقوا في أسواقهم، ويواصلوا البيع والشراء، وقد تلبّد الجوّ بالغيوم الداكنة على أثر العمل الفظيع والجناية الكبرى التي ارتكبوها.من هنا تركوا أسواقهم بسرعة، وعادوا إِلى قلاعهم المحصّنة، وتحصّنوا فيها، وكان ذلك منهم انسحاباً خانعاً بعد ذلك التشدّق الصلف!

ولقد أخطأوا هذه المرة أيضاً إذ ظنوا انهم مانعتهم حصونهم، من انتقام اللّه.ولو أنهم اعتذروا لخطأهم، وأظهروا الندامة لكانوا يجلبون رضا المسلمين، ويحصلون على عفو النبيّ صلى اللّه عليه وآله وهم يعرفون خلقه العظيم، وصفحه الكريم.

إِلا أن تحصنهم كان آية عنادهم، واعلانهم الحرب، ونصبهم العداء الصريح للاسلام والنبيّ والمسلمين.فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بمحاصرتهم،ومنع من دخول أيّ امداد إِليهم، كما منع من اتصالهم بأي أحد خارج حصونهم.فحصرهم في حصونهم خمس عشرة ليلة أشدّ الحصار، حتى قذف اللّه في قلوبهم الرعب، وفقدوا القدرة على المقاومة، ورضوا بأن ينزلوا عند حكم النبيّ صلّى اللّه عليه وآله فيهم !

وأراد رَسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يؤدب تلك الجماعة التي كانت أول من نقض العهد ونبذ الميثاق تأديباً قاسياً، يكون عقاباً لهم وعبرة لغيرهم.

ولكن “عبد اللّه بن اُبي بن سلول” الذي كان من منافقي المدينة ويتظاهر بالاسلام، أصرّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بأن يحسن معاملتهم، ولا يأخذهم بما فعلوا لحلف ومودة كانت بينه وبين يهود من السابق، فانصرف النبيّ صلّى اللّه عليه وآله عن ما كان يريد من تأديبهم الشديد، وعقوبتهم على كره منه4 ولكن أمر بأن يجُلوا من المدينة، ولا يبقوا فيها شريطة أن يتركوا أسلحتهم، وأموالهم، ودروعهم.

فنزلوا على حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وكلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أحد المسلمين بقبض أموالهم وأسلحتهم، وكّلف “عبادة بن الصامت” باجلائهم من حصونهم فعجلّ عبادة في ترحيلهم وإِجلائهم.

فخرجوا من المدينة ولحقوا بمنطقة تدعى “أذرعات” وهي بلد في اطراف الشام.
هذا مع العلم ان القرآن الكريم ندّد بمثل هذه الوساطة الذي قام بها ذلك الرجل المنافق رغم تخفيف النبيّ صلّى اللّه عليه وآله معاقبة اليهود ورسم للمسلمين منهجاً في التعامل مع اليهود والنصارى إِذ قال:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *  فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ 5 .

وباجلاء “بني قينقاع” عادت الوحدة السياسية الى المجتمع في المدينة.وكانت الوحدة السياسية هذه المرة مقرونة بالوحدة الدينية إِذ كان المسلمون يشكلون الاغلبية الساحقة في المدينة فلم يكن لغيرهم فيها شأن يذكر.

تقارير جديدة تصل الى المدينة
من المعلوم أن الاخبار تنتشر بين الناس بسرعة في المناطق الصغيرة، على العادة.من هنا فان أنباء أكثر المؤامرات والتحركات المعادية للاسلام التي كانت تقع في المناطق المختلفة من شبه الجزيرة كانت تصل بسرعة – وعبر المسافرين المحايدين أو الاصدقاء المترصدين – الى مركز القيادة الاسلامية في المدينة.

هذا مضافاً الى أن هذا النوع من المعلومات كان يحظى لدى رسول الاسلام باهمية كبرى، فيرصد لها من يأتي بها أولاً بأول، ولهذا كانت اكثر التحركات والمؤامرات يقضي عليها في مهدها بفضل الردّ السريع والمناسب الذي كانت القيادة الاسلامية تقوم به في ضوء المعلومات الواردة اليها، أو التي حصلت عليها.

فبمجردّ أن تتضمن هذه المعلومات، إِلى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله خبراً مفاده أن إِحدى القبائل تعد قوة، وتستعدّ للهجوم على المدينة كان صلّى اللّه عليه وآله يبادر الى بعث سرية أو يقود هو بنفسه مجموعة مناسبة لمحاصرة تلك القبيلة، وافشال مؤامرتها، وابطال تدبيرها قبل أن تستطيع فعل شيء، وكان هذا هو اسلوب المباغتة الذي استطاع به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يقضي على كثير من التحركات المعادية في مهدها.

واليك مختصراً عن بعض تلك الغزوات التي وقعت في السنة الثانية من الهجرة
1-غزوة قرقرة الكدر6
كانت المنطقة اتي تتمركز فيها قبيلة ” بني سلم ” تدعى ” الكُدْر “.
وقد بلغ النبي صلى الله عليه وآله أن القبيلة المذكورة تهيئ، وتعدّ العدة للهجوم على مركز الاسلام وعاصمته ( المدينة ). فخرج رسول الله بنفسه من المدينة بعد أن استخلف عليها أحد أصحابه وأوكل إليه ادارة المدينة في غيابه، وكان الذي استخلفه هذه المرّة “ابن ام مكتوم”، وخرج على رأس قوة عسكرية الى مركز تلك القبيلة فلما سمعوا بمسير القوى الاسلامية اليهم تفرقوا، وعاد رسول الله صلى الله عليه وآله الى المدينة من غير قتال.

ثم بعث سرية بقيادة فارس من فرسانه يدعى ” غالب بن عبد الله ” الى نفس تلك المنطقة، فوقع بينه وبينهم قتال محدود وعاد ” غالب ” الى المدينة ظافراً بعد أن استشهد ثلاثة من رجاله.

2-غزوة السويق
كان عرب الجاهلية إذا نذروا ينذرون نذوراً غريبة.فقد نذر أبو سفيان بعد معركة بدر أن لا يقارب زوجته ما لم يثأر 7 من المسلمين لقتلى بدر فكان عليه أن يقوم بهجوم على المدينة، ويقاتل النبيّ وأصحابه ليفي بنذره !!.

فخرج من مكة في مائتي راكب فجاء بني النضير ليلاً، يطلب مشورة من أحبار اليهود.فلما كان في وقت السحر خرج فمر بالعريض فوجد رجلاً من الانصار مع أجير له فقتل الأنصاريّ، وقتل أجيره، وحرّق بيتاً وحرثاً لهم بارشاد من كبير اليهود ” سلام بن مشكم ” ورأى أن يمينه قد حلّت، ثم ذهب هارباً، وخاف ملاحقة المسلمين له.

فعرف به النبيّ صلّى اللّه عليه وآله فندب أصحابه فخرجوا في أثره، وجعل أبو سفيان وأصحابه يتخففون فيلقون أكياس السويق (وهو القمح المقلّى المطحون الملتوت بالسمن أو العسل)، وهي عامة زادهم، فجعل المسلمون يمرّون بها فيأخذونها.
فسميت تلك الغزوة بغزوة السويق لهذا الشأن.

3-غزوة ذي أمرّ
بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن قبيلة غطفان تجمع أفرادها، وتتأهب للعدوان على المدينة المنورة، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على رأس أربعمائة وخمسين رجلا.فلما سمع العدو بمسير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إليهم خافوا خوفاً شديداً فهربوا إلى رؤوس الجبال، فراراً من النبيّ والمسلمين.

فخرج النبيّ صلّى اللّه عليه وآله اليهم يبحث فلم يلاق أحداً منهم، وقد غيّبوا سرحهم وذراريهم في ذرى الجبال خوفاً وفرقاً.

فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله “ذا أمرّ”8 وعسكر معسكره هناك، فأصابهم مطر كثير، فذهب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ناحية ليقضي حاجة، فأصابه ذلك المطر فبلّ ثوبه، وقد جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وادي “ذي أمرّ” بينه وبين أصحابه، ثم نزع ثيابه فنشرها لتجف، وألقاها على شجرة، ثم اضطجع تحتها، والأعراب ينظرون الى كلّ ما يفعل.

فقالت الأعراب لدعثور وكان سيّدها وأشجعها:قد أمكنك محمّد، وقد انفرد من أصحابه، حيث إن غَوَّث بأصحابه لم يُغَث حتى تقتله.

فاختار سيفاً من سيوفهم صارماً ثم أقبل مشتملاً على السيف حتى قام على رأس النبيّ صلّى اللّه عليه وآله بالسيف مشهوراً، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مستلق على قفاه.
فقال بنبرة خشنة مهددة:ما يمنعك منّي اليوم ؟ قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله:اللّه.
فكان لهذه الكلمة أثر عجيب في نفس دعثور بحيث ارعب، ووقع السيف من يده، فأخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقام به على رأسه، فقال: ومن يمنعُك منّي اليوم.
فقال: لا أحد.
ثم قال:فأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأنّ محمّداً رسول اللّه، واللّه لا أكثر عليك جمعاً أبداً.
فأعطاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله سيفه ثم أدبر، ثم أقبل بوجهه على النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وقال:أما واللّه لانتَ خير منّي.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:أنا أحق بذلك منك.
فأتى قومه، وقصَّ عليهم ما جرى له مع النبيّ، وأنّه أسلم، ودعا قومه الى الاسلام.

أجل يكتب المؤرخون في هذا المقام أن الرجل أسلم من فوره، ويجب أن نعلم أنه لم يسلم خوفاً وفرقاً وتحت بارقة السيف لأنه بقي ثابتاً ومستمراً في اسلامه بعد ذلك وأخذ يدعو قومه كما أسلفنا وهذا يدل على أنه أسلم عن طواعية ورغبة. وان اسلامه كان لتنبّه فطرته، ويقظة وجدانه، فانّ فشله غير المتوقع، ونجاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله التي تمت بطريقة خارقة للعادة جعلته ينتبه الى عالمٍ آخر، وعرف بأن لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إرتباطاً بعالم آخر، وأنه مؤيّد بالتالي بقوةٍ عليا، وراء هذا العالم المادي.
ولهذا السبب وليس لسواه أسلم، وقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله اسلامه، وبعد أن مشى خطوات ردّ الى النبيّ سيفه الذي أعاده اليه النبيّ قبل ذلك واعتذر اليه.
وقال:أنت أولى بهذا السيف لأنّك قائد هذه السرية المصلحة 9.

قريش تغيّر مسير تجارتها
تعرضت سواحل البحر الاحمر للخطر من قبل عناصر الجيش الاسلامي وحلفائهم، ولم يعد من الممكن مواصلة التجارة وارسال القوافل التجارية عبرها.

من هنا تشاورت قريش فيما بينها، ودرست أوضاعها في ظل هذه المستجدات، واتفقت على أنه لو تركت التجارة لهلكت رؤوس أموالها وفنيت، وكان عليها أن تسلّم للمسلمين.
وان واصلت التجارة لم تحرز في هذا المجال نجاحاً ما دامت الطريق غير آمنة، وما دام يمكن أن تتعرض أموالها للمصادرة على أيدي المسلمين كلما عثروا عليها.

فاقترح أحدهم التجارة إلى الشام عن طريق العراق فاستحسنوا رأيه جميعاً، وتهيّأت القافلة للحركة في الخط الجديد وتولّى أبو سفيان وصفوان بنفسيهما مهمة الاشراف على تلك القافلة وادارتها، واستخدما رجلاً من بني بكر يدعى “فرات بن حيان” ليدلّهما على الطريق

قال المقريزي في امتاع الاسماع: سمع رجل من المدينة (وهو سليط بن النعمان) بخبر خروج صفوان بن أمية في عيره وما معهم من الاموال فخرج من ساعته وأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله فأرسل زيد بن حارثة في مائة راكب فاصابوا العير، وأفلت أعيان القوم، فقدموا بالعير فخمّسها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فبلغ الخمس عشرين ألف درهم، وقسّم ما بقي على أهل السريّة، وكان فيمن اُسِرَ فرات بن حيّان فأسلم 10.


1-آل عمران:12 و13.
2-المغازي:ج 1 ص 175 و176.
3-الموسوعة العربية الميسرة:ص 700.
4-المغازي:ج 1 ص 177، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 28و 29.
5-المائدة:51 – 53
6-قرقرة الكدر:ناحية بين المعدن وبين المدينة، ( الطبقات ).
7-المغازي:ج1 ص 182، الطبقات:ج 2 ص 30.
8-واد بطريق فيد إلى المدينة.وفاء الوفاء: ج 2 ص 249.
9-المناقب:ج 1 ص 164، المغازي:ج 1 ص 194 – 196.
10-امتاع الاسماع:ج 1 ص 112.

المصدر: http://alrasoul.almaaref.org/

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى