نور العترة

النزول بأرض الطف…

نزول ركب آل الرسول (ص) أرض كربلاء:

قال أبو مخنف:… فلمّا أصبح نزل فصلّى الغداة ثم عجّل الركوب فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرّقهم فيأتيه الحرّ بن يزيد فيردّهم فيردّه، فجعل اذا ردّهم الى الكوفة ردّاً شديداً امتنعوا عليه، فارتفعوا فلم يزالوا يتسايرون حتى انتهوا الى نينوى، المكان الذي نزل به الإمام الحسين (ع).

وأخذ الحرّ بن يزيد القوم بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية فقالوا: دعنا ننزل في هذه القرية – يعنون نينوى – أو هذه القرية – يعنون الغاضرية – أو هذه الأخرى – يعنون شُفَيّة – فقال:

(لا والله ما أستطيع ذلك) (1).

فقال زهير بن القين إلى الحسين (ع): فهاهنا قرية بالقرب منّا على شط الفرات، وهي في عاقول. (2) حصينة، الفرات يحدق بها الاّ من وجه واحد، قال الحسين (ع): (وما اسم تلك القرية)؟ قال: العقر، قال الحسين: (نعوذ بالله من العقر). (3) قال الحسين (ع) للحرّ: سربنا قليلاً ثم ننزل، فسار معه حتى أتوا كربلاء، فوقف الحرّ وأصحاب الامام الحسين (ع)، ومنعوهم من المسير، وقال: انزل بهذا المكان، فالفرات منك قريب.

قال الحسين: (وما اسم هذا المكان)؟ (4) قالوا له: كربلاء. قال: (ذات كرب و بلاء، ولقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره الى صفّين، وأنا معه، فوقف، فسأل عنه، فأخبر باسمه، فقال: ثقل لآل بيت محمد (ص) ينزلون هاهنا، وقبض قبضة فشمّها، وقال: (هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله (ص) أنني أقتل فبها). (5)

وروي انه عليه السلام قال عندما سمع بان المكان هو كربلاء قال: انزلوا، هاهنا والله محط ركابنا وسفك دمائنا، هاهنا والله مخط قبورنا، وهاهنا والله سبي حريمنا، بهذا حدثني جدي

ـــــــــــــــــــــــ

1- الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج 4، ص: 52، ومقتل الحسين للمقرم، ص: 228.

2- عاقول: الوادي ما أعوج منه، والأرض العَاقُول التي لا يُهتَدَى إليها. راجع لسان العرب، حرف العين

3- العقر: مكان قرب كربلاء من نواحي الكوفة.

4- روى هذه المحاورة الدينوري في الاخبار الطوال، ص 252-253، وراجع تاريخ الخميس، ج 2، ص 297، ومجمع الزوائد، ج 9، ص 192.

5- المصدر السابق وسبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص، ص 142.

قدوم عمر بن سعد على الحسين والمكاتبات بينهما:

قال الطبري وغيره، واللفظ للطبري: فلمّا كان من الغد، قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقّاص من الكوفة في أربعة آلاف.

روى الطبري وقال: فأقبل عمر بن سعد إلى ابن زياد، فقال أصلحك الله، انّك ولّيتني هذا العمل – مناجزة الحسين – وكتبت لي العهد وسمع به الناس. فان رأيت أن تنفذ لي ذلك فافعل، وابعث إلى الحسين في هذا الجيش من أشراف الكوفة من لست بأغنى ولا أجرأ عنك في الحرب منه، فسمّى له أناساً فقال له ابن زياد: لا تعلّمني بأشراف أهل الكوفة، ولست استأمرك فيمن أريد أن أبعث، إن سرت بجندنا والاّ فابعث بعهدنا، فلمّا رآه قد لجّ، قال: فانّي سائر، قال: فأقبل في أربعة آلاف حتى نزل بالحسين من الغد من يوم نزل الحسين نينوى.

قال: فبعث عمر بن سعد إلى الحسين (ع) عزرة بن قيس الأحمسي، فقال ائته فسله ما الذي جاء به؟ وماذا يريد؟ وكان عزرة ممّن كتب إلى الحسين، فاستحيا منه أن يأتيه، قال: فعرض ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه، فكلّهم أبى وكره، قال: وقام إليه كثير ابن عبدالله الشعبي وكان فارساً شجاعاً ليس يردّ وجهه شيىء فقال: أنا أذهب إليه… فدعا عمر قرّة بن قيس الحنظلي فقال له: ويحك يا قرّة القَ حسيناً، فسله ما جاء به؟ وماذا يريد؟ قال: فأتاه قرّة بن قيس، فلما رآه الحسين مقبلاً قال: (اتعرفون هذا)؟ فقال حبيب بن مظاهر: نعم هذا رجل من حنظلة تميمي، وهو ابن اختنا، ولقد كنت أعرفه بحسن الرأي، وما كنت أراه يشهد هذا المشهد، قال: فجاء حتى سلّم على الحسين، وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه، فقال له الحسين (ع): (كتب إليّ أهل مصركم هذا أن أقدم فأمّا إذا كرهوني فأنا أنصرف عنهم. فانصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر. فقال له عمر بن سعد: إنّي لارجو أن يعافيني الله من حربه و قتاله.

قال: كتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد: أمّا بعد فاني حيث نزلت بالحسين بعثت اليه رسولي فسألته عمّا أقامه وماذا يطلب ويسأل. فقال: كتب إليّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم يسألوني القدوم، ففعلت، فأمّا اذا كرهوني وبدا لهم غيرما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم. فلمّا قرىء الكتاب على ابن زياد قال:

الآن إذ علقت مخالبنابه – – – – – يرجو النجاة ولات حين مناص

وكتب إلى عمر بن سعد: أمّا بعد فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت، فأعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية هو وجميع أصحابه، فاذا فعل ذلك رأينا رأينا والسلام.

وروى البلاذري في أنساب الأشراف وقال: لما سرّح ابن زياد عمر بن سعد. أمر الناس فعسكروا بالنخيلة، وأمر أن لا يتخلّف أحد منهم، ثم خرج ابن زياد فعسكر، وبعث الى الحصين بن تميم، وكان بالقادسية في أربعة الآف، فقدم النخيلة في جميع من معه، ثم دعا ابن زياد كثير بن شهاب الحارثي، ومحمد بن الاشعث بن قيس، وأسماء بن خارجة الفزاري، وقال: طوفوا في الناس فمروهم بالطاعة والاستقامة، وخوّفوهم عواقب الأمور والفتنة والمعصية، وحثوّهم على العسكرة، ووجّه أيضاً حجّار بن أبجر العجلي في ألف، وتمارض شبث بن ربعي، فبعث إليه فدعاه، وعزم عليه أن يشخص إلى الحسين في ألف ففعل وغيره، ثم جعل ابن زياد يرسل العشرين والثلاثين والخمسين إلى المئة، غدوة وضحوة ونصف النهار وعشيّة، من النخيلة، ويمّد بهم عمر بن سعد. ذكر ابن نما في مثير الاحزان: إنَّ عددهم بلغ لست خلون من المحرم عشرين ألفاً.

منع الماء عن عترة الرسول (ص):

روى الطبري عن حميد بن مسلم الأزدي قال: جاء من عبيد الله بن زياد كتاب إلى عمر بن سعد: أما بعد فحُلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ولا يذوقوا منه قطرة، قال: فبعث عمر بن سعد عمرو بن الحجّاج الزبيدي على خمسمائة فارس فنزلوا على الشريعة وحالوا بين حسين وأصحابه، وبين الماء أن يسقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاث؛ وروي عن أبي مخنف عن رجاله: انهما كانا التقيا مراراً ثلاثاً أو أربعاً، حسين و عمر بن سعد، قال: فكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد: أمّا بعد فإنَّ الله قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمّة، هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أن نسيّره إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئنا، فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتي يزيد أميرالمؤمنين، فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه.

إلا أنَّ ما ذكره ابن سعى لابن زياد تقوّل وافتراء على سيدالشهداء (عليه السلام) الذي يحمل روح العزة والكرامة، ولطالما صرّح بذلك مراراً من أن يؤثر الاستسلام والخنوع كقوله (ع):

((والله لا أعطي الدنية من نفسي))، وقوله: ((لو لم يكن ملجأ لما بايعت يزيد))، وقوله الذي أصبح شعاراً للعزة والكرامة: ((هيهات منّا الذلّة))، وغير ذلك كثير فكيف يمكن قبول تقوّل ابن سعد بأن يضع يده بيد ابن آكلة الأكباد؟

وقد مؤنة الردّ ما ذكره ابن الأثير عن عقبة بن سمعان بقوله:

((صحبتُ الحسين من المدينة إلى مكة، إلى العراق، ولم أفارقه حتى قُتل، وسمعت جميع مخاطباته للناس إلى يوم مقتله، فوالله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس أنه يضع يده في يد يزيد، ولا أن يسيّروه إلى تغر من تغور المسلمين، ولكنه قال: دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير إليه أمر الناس، فلم يفعلوا)). (1)

فلمّا قرأ عبيدالله الكتاب قال: هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه، نعم قد قبلت. فقام إليه شمر بن ذي الجوشن، فقال: أتقبل هذا منه، وقد نزل بأرضك الى جنبك؟ والله لئن رحل من بلدك، ولم يضع يده في يدك، ليكوننّ أولى بالقوة والعزّ، ولتكوننّ أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة… ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فان عاقبت فأنت وليّ العقوبة. فقال له ابن زياد: نعم ما رأيت، الرأي رأيك.

ثم إن عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن فقال له: أخرج بهذا الكتاب إلى عمر ابن سعد، فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا فليبعث بهم إليّ سلماً، وان هم أبوا فليقاتلهم، فان فعل فاسمع له وأطع، وان هو أبى فقاتلهم، فأنت أمير الناس، وثب عليه فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه. ثم كتب عبيد الله بن زياد الى عمر بن سعد هذا الكتاب: أمّا بعد فاني لم أبعثك إلى حسين لتكفّ عنه و لا لتطاوله ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له عندي شافعاً. أنظر فان نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم اليّ سلماً، وإن أبوا فازحف عليهم حتى تقتلهم: وتمثل بهم، فانهم لذلك مستحقّون، فان قتل حسين فأوطىء الخيل صدره وظهره… وان أنت مضيت لأمرنا فيه، جزيناك جزاء السامع المطيع، وان أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فانّا قد أمرناه بأمرنا والسلام.

قال: فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيد الله بن زياد الى ابن سعد، فلما قدم به عليه، فقرأه، قال له عمر: مالك! ويلك لاقرّب الله دارك، وقبّح الله ما قدمت به عليّ، والله اني لأظنّك أنت ثنيته أن يقبل ما كتبت به إليه، أفسدت علينا أمراً كنّا رجونا أن يصلح، لا يستسلم والله حسين، إن نفساً أبيّة (أو نفس أبيه) بين جنبيه، فقال له شمر: أخبرني ما أنت صانع؟ أتمضي لأمر أميري وتقتل عدوّه؟ والاّ فخلِّ بيني وبين الجند والعسكر. قال: لا ولا كرامة لك، وأنا أتولّى ذلك، قال: فدونك وكن أنت على الرجال.

ــــــــــــــــــــ

(1) الكامل في التاريخ، ابن الاثير، ح 4، ص: 54.

النفير العام في جيش ابن زياد

جاء في مقتل العوالم: خرج الشمر في أربعة آلاف، ويزيد بن الركاب في ألفين، والحصين بن نمير التميمي في أربعة آلاف، وشبث بن ربعي في ألف، وكعب بن طلحة في ثلاثة آلاف، وحجّار بن أبجر في ألف، ومضاير بن رهينة المازني في ثلاثة آلاف، ونصر بن حرشة في ألفين، فتكامل عند ابن سعد لستّ خلون من المحرّم عشرون ألفاً، ولم يزل ابن زياد

يرسل العساكر إلى ابن سعد حتى تكامل عنده ثلاثون ألفاً. (1)

وكتب ابن زياد إلى ابن سعد: إني لم أجعل لك علّة في كثرة الخيل، فانظر: لا تمسي ولا تصبح إلاّ وخبرك عندي غدوة وعشيّة، وكان يستحثّه على الحرب لست خلون من المحرّم. (2)

– – – – –

1- الكامل: ج 4، ص 16.

2- البدء والتاريخ: ج 6، ص 10، وابن شهرآشوب ج 2، ص 215، وابن نما، واللهوف.

موقف العباس واخوته من الأمان الذي جاء به الشمر:

عندما ورد كتاب عبيدالله على عمر بن سعد يحثه على القتال وتعجيل النزال، ويحذره من التأخير والإمهال، ركبوا جمع من العسكر نحو الحسين عليه السلام.

وأقبل شمر بن ذي الجوشن (1) لعنه الله فنادى: أين بنو أختي

فقال الحسين عليه السلام: “أجيبوه وإن كان فاسقاً، فإنه بعض أخوالكم”.

فقالوا له: ما شأنك؟

فقال: يا بني أختي أنتم آمنون، فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين، وألزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد بن معاوية.

فناداه العباس بن علي: تبت يداك ولعن ماجئت به من أمانك يا عدو الله، أتأمرنا أن نترك أخانا وسيدنا الحسين بن فاطمة وندخل في طاعة اللعناء أولاد اللعناء.

فرجع الشمر إلى عسكره مغضباً.

____________

(1) العباس بن علي بن أبي طالب، أمه أم البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد العامري، وهو أكبر ولدها، ويكنى أبا الفضل، كان وسيماً جميلاً يركب الفرس المطهم ورجلاه تخطان في الأرض، يقال له قمر بني هاشم وهو السقاء، كان لواء الحسين عليه السلام معه يوم قتل، هو آخر من قتل من اخوته لأمه وأبيه، قتله زيد بن رقاد الجنبي وحكيم بن الطفيل الطائي النبسي، وكلاهما ابتلي في بدنه.

مقاتل الطالبيين: 84 ـ 85، تسمية من قتل مع الحسين: 149، رجال الشيخ: 76، أنصار الحسين

رؤيا الامام الحسين عليه السلام:

عشية يوم الخميس لتسع مضين من المحرّم وقف عمر بن سعد ونادى: يا خيل الله اركبي وأبشري. فركب هو في الناس ثمّ زحف نحو معسكر الحسين ((ع)) بعد صلاة العصر، وحسين جالس أمام خيمته محتبياً بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبته، وسمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها وقالت: يا أخي، أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟ فرفع الحسين رأسه فقال:

يا أختاه إني رأيت الساعة جدي محمداً صلى الله عليه وآله وأبي علياً وأمي فاطمة وأخي الحسن وهم يقولون: يا حسين إنك رائحٌ إلينا عن قريب، فلطمت أخته وجهها وقالت: يا ويلتا، فقال،] ليس لك الويل يا أخيّة اسكني رحمك الرحمن [.

استمهال الحسين القوم عن القتال تلك الليلة:

العبّاس بن عليّ: (يا أخي أتاك القوم)، فنهض الامام الحسين ثم قال: (يا عبّاس، إركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم، فتقول لهم ما لكم وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم). فأتاهم العبّاس فاستقبلهم في نحو من عشرين فارساً، فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر، فقال لهم العبّاس: (مابدا لكم وما تريدون)؟ قالوا جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه، أو ننازلكم. قال: (فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبدالله فأعرض عليه ما ذكرتم)، فوقفوا. وقد خاطب كلّ من حبيب وزهير أهل الكوفة ونصحاهم فلم ينفعهم ذلك، وأتى العبّاس بن عليّ حسيناً بما عرض عليه عمر ابن سعد، فقال له: إرجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشّية لعلّنا نصلّي لربّنا وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني أحبّ الصلاة. فأقبل العبّاس حتى انتهى إليهم فقال: (يا هؤلاء، إن أبا عبدالله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشّية حتى ينظر في هذا الأمر، فإن هذا أمر يجر بينكم وبينه فيه كلام، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله)، فلمّا أتاهم العبّاس بن عليّ بذلك قال عمر بن سعد: ماترى يا شمر؟ قال: ماترى أنت؟ أنت الأمير والرأي رأيك، قال: قد أردت أن لا أكون، ثم أقبل عمر على الناس فقال ماذا ترون؟ فقال عمرو بن الحجاج الزبيدي: سبحان الله! والله لوكانوا من الديلم ثم سألوك هذه المسألة، لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها، وقال قيس بن الأشعث: أجبهم إلى ما سألوك، فلعمري ليصبحنّك بالقتال غدوة، فقال عمر بن سعد: والله لو أعلم أن يفعلوا ما أخّرتهم العشيّة. (1)

ـــــــــــــــــــ

(1) الكامل في التاريخ، ح 4، ص: 56، 57، ومقتل الحسين، عبدالرزاق المقرم، ص 254-257.

الحسين (ع) يستخبر أصحابه:

روي عن عليّ بن الحسين ((ع)) قال: جمع الحسين أصحابه بعدما رجع عمر بن سعد، وذلك قرب المساء، فدنوت منه لأسمع، وأنا مريض فسمعت أبي وهو يقول لأصحابه: أثني على الله تبارك أحسن الثناء… أما بعد، فإني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاً خيراً، ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألا وإني قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملا، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، ثم تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم، حتى يفرّج الله، فإنَّ القوم إنما يطلبونني، ولو قد أصابوني لَهَوا عن طلب غيري، فقال له أخوته وأبناؤه وبنو أخيه، وابنا عبدالله بن جعفر: لِمَ نفعل؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً، بدأهم بهذا القول العبّاس بن عليّ ثم إنهم تكلّموا بهذا ونحوه فقال الحسين (ع): يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذنت لكم، قالوا: فما يقول الناس؟ يقولون: إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الاعمام ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا لا والله لا نفعل ولكن نفديك انفسنا واموالنا واهلونا ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك.

وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي، فقال: أنحن نخلّي عنك؟ وبما نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟ أما والله حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولا أفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك، حتى أموت معك،

وقال سعد بن عبدالله الحنفيّ: والله لا نخلّيك حتى يعلم الله أن قد حفظنا غيبة رسول الله ((ص)) فيك، والله لو علمت أني أقتل، ثم أحيا، ثم أحرق حيّاً، ثم أذرّ، يفعل ذلك، بي سبعين مرة، مافارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا افعل ذلك وانما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها ابدا.

وقال زهير بن القين: والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت، حتى أقتل كذا ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتية، من أهل بيتك، وتكلّم أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد، فقالوا: والله لا نفارقك ولتكن أنفسنا لك الفداء نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا فاذا نحن قتلنا كنا وفينا وقضينا ما علينا.

وقيل لمحمد بن بشير الحضرمي (1) في تلك الحال: قد أسر إبنك بثغر الري (2).

فقال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنت أحب أن يُؤسَر وأن أبقى بعده.

فسمع الحسين عليه السلام قوله فقال: “رحمك الله، أنت في حلٍّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك”.

فقال: أكلتني السباع حياً إن فارقتك.

قال: فأعط إبنك هذه البرود يستعين بها في فكاك أخيه.

فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار.

____________

(1) ب: محمد بن بشير الحضرمي.

وفي ترجمة الإمام الحسين من كتاب الطبقات 180 ذكر نص هذا الخبر وذكر اسمه كما هنا، لكن في تاريخ الطبري 5|444 وأنساب الأشراف: 196 ذكر اسمه بشير بن عمرو، فلاحظ.

(2) بثغر الروم، والمثبت من: ب. ع.

والثغر بالفتح ثم السكون: وراء كل موضع قريب من أرض العدو، كأنه مأخوذ من الثغرة التي هي في الحائط.

والري: مدينة مشهورة من أمهات البلاد وأعلام المدن، كثيرة الفواكه والخيرات، وهي محط الحاج على طريق السابلة وقصبة بلاد الجبال بينها وبين نيسابور مائة وستون فرسخاً وإلى قزوين سبعة وعشرون فرسخاً.

معجم البلدان 2|79 و 3|116.

الحسين ينعى نفسه ويوصي أخته بالصبر

روى الطبري عن عليّ بن الحسين بن عليّ ((ع))، قال: إني جالس في تلك العشيّة التي قُتل أبي صبيحتها، وعمّتي زينب عندي تمرّضي، إذ اعتزل أبي بأصحابه في خباء له وعنده حويّ (جون) مولى أبي ذر الغفاري، وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول:

“يا دهر أفٍّ لك من خليل * كم لك بالإشراق والأصيل

من طالبٍ وصاحبٍ قتيل * والدهر لا يقنع بالبديل

وإنما الأمر إلى الجليل * وكل حيٍّ سالك سبيل

ما أقرب الوعد إلى الرحيل * إلى جنان وإلى مقيل ”

قال: فأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتى فهمتها فعرفت ما أراد، فختقتني عبرتي فرددت دمعي ولزمت السكوت فعلمت أن البلاء قد نزل، فأما عمّتي فإنها سمعت ما سمعت – وهي امرأة وفي النساء الرقّة – فلم تملك نفسها أن وثبت تجرّ ثوبها، وإنها لحاسرة حتى انتهت إليه فقالت: واثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت فاطمة أمّي!! وعليّ أبي، وحسن أخي، يا خليفة الماضين وثمال الباقين، فنظر الحسين ((ع)) إليها فقال: يا أخيّة، لا يذهبنّ بحلمك الشيطان، قالت بأبي أنت وأمي، يا أبا عبدالله استقتلت؟ نفسي فداك فردّ غصّته وترقرقت عيناه، وقال: لو تُرك القطا ليلاً لنام…. وقال تعزّي بعزاء الله واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وأن كلَّ شيء هالك إلاّ وجه الله…. أبي خير منّي، وأمي خير منّي وأخي خير منّي، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله ((ص)) أسوة يا اخية إني أُقسم عليكِ فابرِّي قسمى ولا تشقّي علي جيبا، ولا تخمشي عليَّ وجهاً، ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت. ثم جاء بها حتى أجلسها عندي، وخرج إلى اصحابه، فأمرهم أن يقرِّبوا بعض بيوتهم من بعض، وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض، وأن يكونوا هم بين البيوت الا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم.

معنويات أنصار الإمام الحسين ((ع)) في ليلة عاشوراء

كانت ليلة عاشوراء أشدّ ليلة مرت على أهل بيت النبوة، حُفّت بالمكاره والمحن وأعقبت الشرّ وآذنت بالخطر، وقد قطع عنهم قساة القلوب من بني أمية وأتباعهم كل الوسائل الحيوية.

مازح برير عبدالرحمن الأنصاري، فقال له عبدالرحمن: ما هذه ساعة باطل! فقال برير: والله لقد علم قومي ما أحببت الباطل كهلاً، ولا شابّاً، ولكنّي مستبشر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم، ولوددتُ أنّهم مالوا علينا الساعة. (1)

وخرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحصين الهمداني، ماهذه ساعة ضحك! قال حبيب: وأيّ موضع أحقّ بالسرور من هذا؟ ما هو إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم فنعانق الحور. (2)

ويقال: إنه في هذه الليلة انضاف إلى أصحاب الحسين ((ع)) من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً. (3)

وخرج (الحسين) عليه السلام في جوف الليل إلى خارج الخيام، يتفقّد التلاع والعقبات، فتبعه نافع بن هلال الجملي، فسأله الإمام الحسين (ع) عمّا أخرجه، قال: يا ابن رسول الله أفزعني خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغي، فقال الحسين:] إني خرجت أتفقّد التلاع والروابي، مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون [، ثم رجع ((ع)) وهو قابض على يد نافع ويقول:] هي هي والله وعد لا خلف فيه [، ثم قال:] ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل، وتنجو بنفسك [؟ فوقع نافع على قدميه يقبّلهما ويقول: ثكلتني أميّ، إن سيفي بألف، وفرسي مثله، فوالله الذي منّ بك عليّ لا فارقتك حتى يكلاّ عن كرّي وجريي.

ثم دخل الحسين خيمة زينب ((ع)) ووقف نافع بإزاء الخيمة ينتظره، فسمع زينب تقول له: [هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟ فإنّي أخشى أن يسلموك عند الوثبة]، فقال لها: [والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلاّ الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني استيناس الطفل إلى محالب أمّه].

قال نافع: فلما سمعتُ هذا منه بكيتُ وأتيت حبيب بن مظاهر، وحكيت له ما سمعت منه ومن أخته زينب. قال حبيب: والله لولا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة، قلت: إني خلفته عند أخته، وأظن النساء أفقن وشاركنها في الحسرة، فهل لك أن تجمع أصحابك وتواجهوهنّ بكلام يطيّب قلوبهنّ؟ فقام حبيب، ونادى يا أصحاب الحميّة وليوث الكريهة، فتطالعوا من مظاربهم كالأسود الضاربة، فقال لبني هاشم إرجعوا إلى مقرّكم لاسهرت عيونكم، ثم التفت إلى أصحابه، وحكى لهم ماشاهده وسمعه نافع، فقالوا بأجمعهم: والله الذي منّ علينا بهذا الموقف لولا انتظار أمره (أمر الحسين) لعاجلناهم بسيوفنا الساعة، فطب نفساً وقرّ عيناً، فجزّاهم خيراً، وقال: هلمّوا معي لنواجه النسوة ونطيّب خاطرهنّ، فجاء حبيب ومعه أصحابه وصاح: يامعشر حرائر رسول الله ((ص))، هذه صوارم فتيانكم، آلوا ألاّ يغمدوها إلاّ في رقاب من يريد السوء فيكم، وهذه أسنّة غلمانكم، أقسموا ألاّ يركّزوها إلاّ في صدور من يفرّق ناديكم.

فخرجن النساء إليهم ببكاء وعويل، وقلن أيها الطيّبون، حاموا عن بنات رسول الله وحرائر أمير المؤمنين. فضجّ القوم بالبكاء حتى كأن الارض تميد بهم.

ــــــــــــــــــــــــــ

1- الطبري ج 6، ص 241.

2- رجال الكشيّ ص 53، ط الهند.

3- اللهوف، وتاريخ اليعقوبي ج 2، ص 217، ط النجف، وسِيَر أعلام النبلاء للذهبي ج 3، ص 210.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى