التعليممقالاتمناسبات

الحج ودلالاته العبادية والمعنوية…

تحتوي فريضة الحج على مجموعة من الدلالات ارتقت بها إلى المصاف الذي صارت فيه أحد أهم الأعمدة لبناء الصرح الإسلامي العظيم كما هو الحديث المعروف: بني الإسلام على خمس، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، والولاية.
ودلالات تلك الفريضة هي عبادية في الدرجة الأولى لأنها تدخل ضمن الصورة الكاملة للعبادات وتشكل جزءاً أساسياً منها، ويتفرع عن الاجتماع الضخم للمسلمين القادمين من شتى بقاع الأرض لأداء مناسك الدلالات السياسية التي تمثل الجانب الذي تبرز من خلاله عناصر القوة والوحدة عند الأمة الإسلامية .
ولا بد من الإلفات قبل كل شيء إلى أن الفترة الزمنية الفاصلة بين زمن وجوب الحج ووقت أداء المناسك تلعب دوراً تربوياً مهماً وفعالاً على صعيد التهيؤ والاستعداد على الصعد الإيمانية والروحية والسلوكية، ليقبل الحاج بالشوق والحنين اللذين امتلأت بهما نفسه على القيام بأفعال تلك العبادة التي تستمر أياماً وليالي عديدة.
والدلالات العبادية للحج تبدأ منذ اللحظة الأولى التي يخلع المسلم فيها ثيابه التي اعتاد عليها في حياته اليومية العادية، ليلبس ثوبي الإحرام اللذين هما التعبيرالتجسيدي عن الاستعداد للتخلي عن كل الخصوصيات التي تميز كل مسلم عن غيره في الجنس أو اللغة أو الأرض أو الموقع، والذوبان في الخط التوحيدي الصرف الذي يعلو فوق كل تلك الاعتبارات التي كثيراً ما كانت سبباً للشقاء والتعاسة وتجرع الآلام والغصص للعديد من الأمم، وذلك الفعل لا بد أن يكون بنية التقرب إلى الله عزوجل وامتثال أمره حتى يأتي منسجماً مع الهدف الكلي المنظور من عبادة الحج، وأن يترافق كذلك مع صيغة التلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، أن الحمد والنعمة لك والملك، التي تعني الاستجابة للنداء الإلهي والالتزام بأن تعيش النفس حالة الإخلاص لله وحده فلا تشرك معه أحداً، ومن هنا يمكننا الإشارة إلى مجموعة من الدلالات العبادية المشتركة بين كل من مناسك الحج وهي:

الدلالة الأولى : الإنتماء إلى السالكين للخط الإلهي في هذه الدنيا والملتزمين به عقائدياً، حيث يشعر الحاج بأنه فرد من تلك العائلة الكبيرة التي سبقته إلى تلك الاماكن المقدسة، فيسترجع في ذاكرته صورة خليل الرحمن وهو يؤسس بمعاونة ولده إسماعيل عليه السلام ذلك البنيان الذي أراد الله أن يكون الجامع الذي تلتقي عنده أفواج الموحدين ليمارسوا الشعائر نفسها التي ترمز إلى وحدة الشخصية الإنسانية المنسجمة مع الشعارات والأهداف الإلهية، وهذا ما يشيع في نفس كل واحد منهم الشعور بالمسؤولية عن حفظ وصيانة ذلك الانتماء، لا في حدود تلك الأماكن فقط، وإنما على امتداد الساحة التي يتحرك فيها في أي مكان من الأرض.
الدلالة الثانية : “التسامي الإنساني” لأن الإنسان يعيش الدنيا، لا من أجلها وإنما من اجل الآخرة، وهذا يستلزم أن يكون هناك ارتباط فيما بين العالمين حتى لا يشعر بالانفصال ما بين وجوده الدنيوي ووجوده الأخروي، ولهذا كانت حركة الطواف حول البيت العتيق ” الكعبة ” التي يقوم بها زوار بيت الله الحرام مشابهة لحركة الملائكة الذين يطوفون حول عرش رب العزة والجلال، لإعطاء الإنسان بعده الأخروي من خلال الأشواط السبعة التي يطوفها حول الكعبة منتهياً عند النقطة التي ابتدأ منها فيشعر الإنسان من خلالها بالارتباط بعالم الغيب من جهة، وأن حركته في الدنيا لا بد أن تستند إلى ذلك العالم ايضاً، وهذا ما يشعره بالقوة في مقابل كل الآخرين الذين لا يتفقون معه في النظرة إلى الحياة الدنيا وما لها من الارتباط والابتداء مع العالم الآخر “عالم الغيب”.
الدلالة الثالثة : التحرك ضمن حدود التكليف الإلهي، فبما أن الانسان قد خلق لهدف واضح ومحدد وهو ” العبادة ” والتوجه بها نحو الخالق والمعبود، فلا بد أن تظهر تجلياتها في كل حركة وقول يقوم الانسان به حتى يكون بذلك غير خارج عن حدود التكليف الإلهي، وهذا ما يستلزم من السالك إلى الله أن يكون في حركة دائمة ومستمرة ضمن الحدود والأطر التي قد بيّنها الله عن طريق شرائعه ورسله، وأن يبذل كل ما يمكنه من الجهد والسعي حتى لا يتخطى تلك الحدود، وهذا ما يمكن للمرء أن يستظهره من أحد مناسك الحج وهو” السعي ” الذي يشكل أحد مناسك تلك العبادة الجليلة، فهو يحمل الإشارة الواضحة إلى أن المسلم الملتزم لخط الله في الحياة لا يمكن أن يعيش الجمود والتخلف عن الحركة والنشاط الدائمين في الدنيا ويعيش السلبية فيها، بل عليه أن يستوعب أن الحركة فيها مع تزويدها بالبعد الغيبي هي الأمر المطلوب تحقيقه، ولكن من دون الخروج عن إطار التكليف، لأن التعدي في الحركة عن ذلك الإطار يخرج العقل من دائرة كونه لله إلى دوائر أخرى قد لا تنسجم قليلاً أو كثيراً مع السياق الإلهي العام للحياة.
الدلالة الرابعة : التسليم المطلق لله عزوجل : وهذا المعنى هو عبارة عن الاستعداد الكامل للسير مع الله في الحالات الصعبة التي تتطلب من الإنسان بذل المال والنفس وتنفيذ التكاليف مهما كانت النتائج المترتبة عليها مخالفة لهوى النفس التي قد تنفر لطبعها من الإقدام على القيام بما لا تراه عائداً عليها بالمنفعة واللذة، وهذا المعنى يتضح من مناسك ” الذبح ” في الحج، الذي يرمز إلى القوة والصلابة عند المؤمن في امتثال تلك التكاليف التي قد يكون فيها ضرر على المال أو النفس، إلا أن القيام بها لما كان لله عزوجل، فالتسليم له يقتضي بل ينبغي أن يدفع المسلم إلى النهوض، بأعبائها من منطلق الثقة الكاملة بأنها ستكون موضع قبول ورضا عند الله وليعطيه بدلاً منها الأضعاف الكثيرة في العالم الحقيقي،عالم الخلود والبقاء.
الدلالة الخامسة:” محاربة الأهواء الشيطانية ” وهذا الجانب هو الشق الآخر الذي ترمز اليه عبادة الحج، حيث إن الشيطان بما يمثل من دعوة إلى الانحراف في التوجه المضاد للهدف الصحيح من الحياة الإنسانية، فهو حاضر دائماً لإغواء الإنسان بكل أصناف الغواية لكي يسير بالإنسان إلى الدركات والسقوط لتصبح الحركة للشيطان بدلاً من أن تكون للرحمن، وهذا ما نلحظه من “رمي الجمار” التي يقوم بها الحاج لتكون التعبير الواضح عن استعداده لمحاربة الإغواء الشيطاني ووسوساته ولهذا الحال تكرار هذا الرمي للجمرات الثلاث تعبيراً آخر عن العزم والتصميم على عدم الانصياع للشيطان والتغلب عليه لطرده من الحياة منعاً من تغلغل تأثيراته السلبية والمنحرفة والانتصارعليه كما انتصر عليه نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام.
الدلالة السادسة: “المراقبة الدقيقة للنفس “حيث إن الحاج بعد الإحرام الذي يمهّد به لأداء المناسك ينتج عنه مجموعة من المحرمات التي لا يجوز الإقدام عليها أو ارتكاب شيء منها لمنافاتها للصورة الأدائية الجمالية للحج، وهذا يستلزم بالتالي أن يكون الإنسان في موضع المراقبة الدائمة الدقيقة والواعية للتحركات أو الأقوال والأفعال التي يقوم بها حتى لا يقع في المحاذير والأخطاء، وهذه العملية التي تستمر أياماً أثناء فريضة الحج، هي النموذج المختصر عن الطريقة التي ينبغي للمسلم أن يتعامل معها على مستوى العمر كله وامتداد وجوده في هذه الدنيا، فتكون نفسه هي الشغل الشاغل لديه في حركة مراقبة مستمرة لا يغفل فيها عن نفسه حتى لا تدفعه إلى الانحراف، ولهذا كانت تلك المحرمات دعوة للمسلم لبناء الإدارة القوية التي تلجم النفس وتردعها عن كل ما ينتافى مع حركة السير نحو الله عزوجل.
هذه الدلالات وغيرها كثير مما تتضمنه فريضة الحج تشكل بمجموعها ثروة معنوية تبرز فيها تلك الدلالات ليكون لله من حياة النصيب الأكبر والأوفر من سعيه وعمله وحركته، وليبني لنفسه البناء الذي سيرتحل إليه من هذه الدنيا ليكون مسكنه الدائم والنهائي في عالم الآخرة عند المليك المقتدر . 1

  • 1. نُشرت هذه المقالة على الموقع الالكتروني الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد بتاريخ: السبت, 15 شباط/فبراير 2014.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى