التعليمالقرآن الكريمالقرآن الكريممقالات

رفع القواعد ونثر الأعمال

الدُّعاء في القرآن الكريم لا ينفك ارتباطًا عن مختلف جوانب الحياة، فهو مدرسة متكاملة الأسس والجدران، وهو منهاج متكامل في اللجوء إلى الله تعالى في شتى الميادين.

وفي هذا العدد سوف نتناول مقطعًا مهمًا من سلسلة الأدعية القرآنية المباركة التي نُقلت حكايةً عن إبراهيم (عليه السلام)، وهو قوله تعالى:}وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { (البقرة: 127) .

تبدأ قصة هذا الدعاء عندما أراد إبراهيم عليه السّلام -بأمر الباري تعالى- تجديد بناية الكعبة الشريفة، ولا يخفى أن الكعبة كانت موجودة قبل إبراهيم (عليه السلام)؛ إذ يعود تاريخها إلى زمن النّبيِّ آدم (عليه السلام) حيث قال تعالى: }إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ{ (آل عمران: 96)، فجاء هذا الدعاء مرتبطا بهذه الحادثة المباركة أي تجديد بناء الكعبة.

ولو أمعنا النَّظر فيه لوجدناه نبعًا لا ينضب من الكنوز واللطائف التي جاءت بصيغة الدّعاء، ويمكن تقسيمها على مستويين هما: مستوى العمل ومستوى العبادة، وكما يأتي:

أولا: مستوى العمل: ويتبيّن من اسناد الرفع إلى القواعد في قوله تعالى المتقدم، والقواعد تعني ما يستقر من البناء على الأرض، وفي هذا التعبير أمور عدّة يمكن تناولها من خلال الأوجه الآتية :

1- الدّقة والتّكامل في العمل: يُعدّ العمل الدّقيق والمتكامل هو العمل النّاجح لدى تنفيذه من قِبل أيّ مصلح أو صاحب مشروع أو فكرة يريد استمرارها؛ إذ إن اسناد الرفع الى القواعد تعني أنّ إبراهيم

(عليه السلام) درس المشروع جيدا وألمَّ بكل جوانبه، فعمله لا يتسم بالسطحية بل استند الى الأساس والقاعدة، وهذا الاسناد يكشف لنا الجوانب المتكاملة في هذا المشروع الإلهيّ إذ إنّه

ركز وعمل على القواعد والأسس ومنها إلى بقية التفريعات.

2- تعظيم العمل: حيث أن القرآن الكريم دلّنا باسناد الرفع إلى القواعد لا إلى أمر جانبيّ طفيف على أهمية هذا العمل، والاسناد فيه اشارة إلى أن عمل الرفع لكل جزء في البيت من حيث الأهمية يوازي أهمية رفع الجزء الأساسي أي رفع القواعد .

3- تجديد العمل: رفع القواعد يعني التأسيس لمرحلة مهمة جديدة، فناسب التعبير بالقواعد الاشارة إلى الدور الذي سيُلقى على عاتق النّبيِّ إبراهيم (عليه السلام) والأنبياء من بعده، فأشار القرآن الكريم برفع القواعد إلى هذه المهام الإلهيّة التي تكون بمثابة الأساس والقاعدة للمرحلة القادمة، وما يدلّنا على ذلك أن كبرى الديانات السّماوية اليهوديّة والنّصرانيّة والإسلاميّة جاءت بواسطة أنبياء من نسله المبارك.

ثانيا: مستوى العبادة ويتبيّن هذا المستوى في قوله تعالى:}رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا{ (البقرة:127) الذي يحتوي على لطائف مهمة يمكن ايرادها كما يلي:

1- قبول الأعمال: يدلّنا القرآن الكريم على أنّه ينبغي للإنسان أنّ يجعل كلّ أعماله في عناية الله ويستشعر الرقابة الإلهيّة والقرب الإلهيّ وأنّ الباري معه في كلِّ حركاته وسكناته، وليس بالضرورة أن يكون عمله موضع قبول الباري تعالى ورضاه وإنْ كان متكاملًا في الظاهر، ويدلّنا القرآن على هذه الحالة من عدم قبول الأعمال لأشخاص اعتقدوا بالقبول في أكثر من آية منها قوله تعالى: }قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا{ (الكهف: 103، 104) ، وقوله تعالى: }وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا{ (الفرقان: 23)، فقبول الأعمال ليس بضاعة في متناول جميع الاشخاص فهو يحتاج إلى شروط متعددة منها قوله تعالى : }إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ{ (المائدة: 27) ، وقوله تعالى: }قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ{ (التوبة: 53)، فينبغي الحذر من ذلك لأنّ كل واحد منا قد يكون مصداقا لنثر الأعمال وعدم قبولها كلّيًّا أو جزئيًّا.

ولو نظرنا إلى الآية الكريمة سنجد أن إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) قد أدركا خطر عدم قبول عملهما فجاء الدعاء من قبلهما برجاء القبول، ولزيادة التوضيح في خطورة هذا الامر نذكر أمرين:

أ- أن لإبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) مقامات كثيرة وعالية، ومع ذلك جاء دعاؤهما بقبول العمل.

ب- أنهما مأموران بعملهما -بناء الكعبة- بشكل خاص من لدن الباري تعالى، ومع ذلك جاء دعاؤهما للباري تعالى بقبول العمل.

2- عدم ذكر متعلّق القبول: النبيان إبراهيم وإسماعيل لم يذكرا في دعائهما متعلّق القبول، أيّ لم يقولا تقبّل مِنَّا بناء البيت، لا لعدم أهمية عملهما بل لأنهما استحقرا وانكرا عملهما في مقام الباري تعالى، وهذه لطيفة مهمة في مقام العبودية التي وصلا إليها (عليهما السلام)، فلا ينبغي أن نشعر بإعطاء قيمة معينة لأعمالنا وأفعالنا بل نبقى مهما عملنا مقصرين بحقه جل وعلا.
السيد علي الموسوي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى