الأستوديوالتعليمالجهاد و الشهادةالقرآن الكريمالقرآن الكريممقالات

سر النصر

قال الله{ في كتابه العزيز }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون{(آل عمران-200).

إنَّ المعروفَ من الصبر عند عامّة الناس عادة هو الصبر عند المصائب إلا أنّ للصبر أقساماً أخرى بحسب الأحاديث والروايات المتواترة عن رسول الله (صلى الله عليه واله)

وأهل البيت (عليهم السلام)، وأنّ الصبر إجمالاً باختلاف ظروفه ومقتضياته هو معراج طاعة الله{ورضوانه ودليل على رجاحة العقل وعظمة الخلق ورمز البطولة وسبب الظفر والنصر، ففي حديث ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال (الصّبر إما صبر على المصيبة، أو على الطاعة، أو عن المعصية، وهذا القسم الثالث أعلى درجة من القسمين الأولين)(ميزان الحكمة-ج5-ص171)، فالصَّبر على المصيبة والبلاء كما في قصة نبي الله يعقوب(عليه السلام) وفقدانه عزيزه يوسف(عليه السلام) هو صبرٌ جميلٌ محمودٌ كما قال عنه الله جل وعلا }فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ المُستَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ{(يوسف-18)، والصَّبر على طاعة الله كما في قصة نبي الله إسماعيل(عليه السلام) التي نال بها نبي الله إبراهيم(عليه السلام) المنزلة الإلهية العظيمة (الإمامة) هو تأدية للتَّكليف الإلهي كما في قوله{}يَا أَبَتِ أفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ{(الصافات-102)، أما الصَّبر عن المعصية هو المحافظة على الأخلاق والفطرة السليمة للإنسان والذي يتحلّى به هو أفضل الناس خُلقاً وأعظمهم أجراً عند الله كما في قوله جل وعلا }وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيرًا{(الإنسان-12).

إنَّ الصَّبرَ على الطاعة والتَّصبُّر عن المعصية من أعظم الواجبات عند الله جل وعلا, وقد جاءت الآيات المباركات والأحاديث الشريفة داعيةً للأولى ومحذرةً من الثانية بأسلوب بليغ وحكيم، كما أن الصبر على طاعة الله جل وعلا في سبيل الحفاظ على الدين هو من أعظم الصَّبر أجراً عند الله لأنّه يُعدُّ ركناً أساسياً في ترسيخ الإيمان وصلابته ودليلاً واضحاً على تديّن حامله وهو سِمة الأنبياء والأوصياء والأولياء الصالحين، روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنهُ قَالَ (صابِرُوا أَنْفُسَكُمْ عَلى فِعْلِ الطّاعاتِ وَصُونوها عَنْ دَنَسِ السَّيِّئاتِ تَجِدُوا حَلاوَةَ الْإِيمانِ) (غُرَرُ الحِكَم-ص283)، وقال الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) (اصْبِرُوا عَلى‏ طَاعَةِ اللَّهِ، وَتَصَبَّرُوا عَنْ‏ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّمَا الدُّنْيَا سَاعَةٌ، فَمَا مَضى‏ فَلَسْتَ ‏تَجِدُ لَهُ سُرُوراً وَلَاحُزْناً، وَمَا لَمْ يَأْتِ فَلَسْتَ‏ تَعْرِفُهُ، فَاصْبِرْ عَلى‏ تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا، فَكَأَنَّكَ‏قَدِ اغْتَبَطْت‏)(الكافي-ج2-ص459).

وعن سيد البلغاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في خطبته المعروفة بالشقشقية والتي اشتملت على الشكوى من أمر الخلافة، ثم ترجيح صبره عنها، قال في بعضها(أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ‏ وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَلَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ،‏ فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى وَفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً …إلى أن

قال(عليه السلام): فَصَبَرْتُ‏ عَلَى‏ طُولِ‏ الْمُدَّةِ وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَ الَلَّهِ وَلِلشُّورَى!)(نهج البلاغة-خ3).

إنَّ صبرَ أهل البيت (عليهم السلام)على قضاء الله هو أوضح وأفضل مثال على عظمة الصبر والصابرين، فعن الإمام موسى بن جعفر عن أبيه (عليهما السلام)إنه قَالَ: (جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه واله) أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الْبَابَ وَقَالَ يَا أَهْلِي وَأَهْلَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَهَذَا جَبْرَئِيلُ مَعَكُمْ فِي الْبَيْتِ يَقُولُ إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ‏ عَدُوَّكُمْ‏ لَكُمْ فِتْنَةً فَمَا تَقُولُونَ قَالُوا نَصْبِرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ قَضَائِهِ حَتَّى نَقْدَمَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَسْتَكْمِلَ جَزِيلَ ثَوَابِهِ فَقَدْ سَمِعْنَاهُ يَعِدُ الصَّابِرِينَ الْخَيْرَ كُلَّهُ‏. فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه واله) حَتَّى سُمِعَ نَحِيبُهُ مِنْ خَارِجِ الْبَيْتِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ}وجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً{(الفرقان-20)،(بحار الأنوار-ج24 -ص220) .

ولا ننسى يوم عاشوراء الذي تجسَّد فيه أسمى معانِ الصبر والإيثار عندما وقف سيّد الشهداء أبو عبد الله الحسين(عليه السلام) ضد تيار الظلم والفسق يزيد وأتباعه لعنهم الله في سبيل المحافظة على الإسلام المحمّديّ، حيث صبر(عليه السلام)على كل ما رآه في ذلك اليوم من ظلم وقتل للذرية المحمدية الطاهرة، وهتك للحرمات وسفك للدماء الزَّاكيات، ولم يكتفِ بالصَّبر فحسب بل ضَحَّى بنفسه الزكية وبأخيه بطل العلقمي أبي الفضل العباس(عليه السلام) الذي كان بمثابة عماد جيشه وعمود خيمته، فهو حامل لوائه والمحامي عن حُرم جده المصطفى (صلى الله عليه واله)، والذي كان لشهادته أثر كبير في نفس سيد الشهداء ونفوس أهل بيته (عليهم السلام)، حيث كان أبو الفضل العباس(عليه السلام)قوي الإيمان، نافذ البصيرة، عظيم الخُلق والبطولة والصبر كما قال عنه الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)(كان عمنا العباس بن علي نافذ البصيرة، صُلب الإيمان، جاهد مع أخيه الحسين، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً)(شرح الأخبار-ج3-ص184)؛ إذ لم يبخل أبو الفضل(عليه السلام) على الدين بشيء، وصبر وثبت أمام كل مغريات الدنيا التي عُرضت عليه، وتحمل العطش وكثرة الجراح وفدى أهل بيت النبي (صلى الله عليه واله) بيديه وعينه ورأسه الشريف حتى قال عنه الإمام زين العابدين(عليه السلام)(رحم الله عمي العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه، حتى قطعت يداه، فأبدله الله تعالى بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعباس عند الله تعالى منزلة عظيمة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة)(بحار الأنوار-ج22 -ص274) .

وقد نال بذلك أسمى المقامات وأعلى الدرجات وحصل فيها على أفضل الكرامات، كما جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام)في زيارته (فنعم الصابر المجاهد المحامي الناصر، والأخ الدافع عن أخيه المجيب إلى طاعة ربه، الراغب فيما زهد فيه غيره من الثواب الجزيل والثناء الجميل)بحار الأنوار-ج98 -ص219، إنّ صبرَ سيّد الشهداء الإمام الحسين وأخوته وأهل بيته (عليهم السلام) يوم عاشوراء هو خير مصداق في حديثنا هذا، فقد روي عن الإمام الحسين(عليه السلام) في خطبته يوم عاشوراء قال في بعضها (رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلاءه ويوفينا أجور الصابرين)بحار الأنوار-ج44 –ص367، وكما قال الله{ في كتابة العزيز }إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ{(الزمر-10) .

إنّ أفضلَ دليل حي على ثمرات الصبر هو ما يجري الآن في العراق بعد عامٍ كاملٍ على فتوى المرجعية الرشيدة لسماحة الإمام السيستاني (دام ضله) بالجهاد الكفائي من انتصارات متحققة على أيدي أبطالنا في الحشد الشعبي والجيش العراقي والفصائل الأخرى، وبطولات استثنائية في الدفاع عن الدين والعقيدة والوطن والمقدسات، وكل شبر من أرض العراق الطاهرة حتى تحريرها بالكامل من أيدي الفئة الباغية، وإن من الأمور الدنيوية التي يثيب بها الله جل وعلا الصابرين هو الظفر والنصر والثبات، قال الله جل وعلا }يَا أَيُهَا الَّذِينَ أَمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقدَامَكُمْ{(محمد-7)، وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه واله) أنه قال (إن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وإن مع العسر يسرا) (بحار الأنوار-ج74-ص88)، وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال (لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمن) (بحار الأنوار-ج68-ص95)، وإن النصر الموعود لآتٍ منّةً من الله{ وفضل لأمة قد اتخذت الصبر لباساً عند الشدائد والإخلاص في العمل ذخيرة في المعارك .
مهدي ابو الفضل

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى