التاريخ الإسلاميالجهاد و الشهادةالقرآن الكريمسادة القافلةسيرة أهل البيت (ع)مقالاتمناسباتمنوعات

حوادث السنة السادسة من الهجرة

أعداء الاسلام تحت المراقبة المشّددة1
لم تنقض السنة الهجرية الخامسة إلا وقد انتهت فتنة “الاحزاب” و”بني قريظة”، وقضي عليهما بالكامل، وأصبحت المدينة وضواحيها برمتها في قبضة المسلمين وتحت سيطرتهم، وازدادت قواعد الحكومة الاسلامية الفتية رسوخاً وثباتاً، وساد هدوء نسبي في المنطقة التي تخضع للحكومة الاسلاميّة، غير أن هذا الهدوء كان هدوءً موقتاً، وكان على قائد المسلمين الأعلى أن يراقب أحوال العدو وأوضاعه، وتحركاته ليقضي في المهد على كل مؤامرة ضدّ الاسلام بما اُوتي من قوى وإمكانيات.

ولقد سَمَح الهدوء الذي ساد المنطقة للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله بأن يقمع بعض مشعلي فتنة “الأحزاب” الذين هربوا من قبضة المسلمين بعد رحيل “الأحزاب”.

فلقد قُتِل “حيي بن أخطب” الذي كان من مشعلي معركة الأحزاب، في غزوة بني قريظة، ولكن رفيقه “سلام بن أبي الحقيق” كان لا يزال يعيش في خيبر، ولا شكّ في أن هذا العنصر الخطر لم يكن ليفتأ لحظة واحدة عن إثارة وتأليب “الأحزاب” مرّة اُخرى ضدّ الاسلام، وخاصة أن العرب الوثنيين كانوا مستعدين لشن حرب على الاسلام، وكان من المحتمل إذا توفرت هناك جهة تتكفل نفقات الحرب، أن تتكرر قضية الاحزاب مرة اُخرى.

على أساس هذه المحاسبات كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله2 مجموعة من شجعان الخزرج وفوارسهم بأن يصفّوا هذا العنصر الخطر، الجريء والحاقد، بشرط أن لا يتعرّضوا لأحد من أبنائه وزوجاته.

فخرجوا حتى قدموا خيبر، فدخلوا خيبر ليلاً ولم يدعوا باباً في الدار الا أغلقوه على أهله حتى لا يحس بهم أحد إذا صاح واستغاث بأحد، ثم تسللوا إلى غرفته وكانت في الطابق الاعلى، فطرقوا باب حجرته، فخرجت إليهم امرأته وقالت: من أنتم؟ قالوا: ناس من العرب نلتمس الميرة، ففتحت الباب وسمحت لهم بالدخول عليه من دون التحقق من أمرهم، فدخلوا في غرفته وابتدروه وهو على فراشه بأسيافهم بعد أن أغلقوا باب الغرفة على أنفسهم، وقضوا على ذلك المفسد الشرير الذي طالما أزعج المسلمين بفتنه ومؤامراته، ثم خرجوا، وانحدروا من الدرج واختبأوا في ممرّ مائي من خارج الحصن الى داخله، فصاحت زوجته، واستغاثت بالجيران، ولكن من دون جدوى، وعندما يئسوا من القبض عليهم رجعوا الى صاحبهم المقتول، وقد بلغ من جرأة المسلمين أن بعثوا أحدهم ليدخل بين اليهود في خيبر ويأتي لهم بخبر ابن أي الحقيق، لأنهم كانوا يظنون بأنه لا يزال على قيد الحياة.

فدخل ذلك الرجل بين اليهود فوجدهم وامرأته حول ابن أبي الحقيق، وفي يدها المصباح تنظر في وجهه، وتحدثهم، وتقصُّ عليهم ما جرى، ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه ثم قالت: فاظ (أي مات) وإله يهود.

فعاد إلى رفاقه وأخبرهم بنجاح عمليّتهم وهلاك عدوّ اللّه: “سلام بن أبي الحقيق” على أيديهم، فخرجوا في تلك الليلة من مخبأهم وعادوا إلى المدينة وأخبروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بما جرى3.

أهل الرأي من قريش يهاجرون الى الحبشة
توجه جماعة من أهل الرأي في قريش الذين أخافهم تقدّم الاسلام، وانتشارُه المطرد بشدة، الى البلاط الحبشي ليقطنوا ويقيموا في الحبشة فقد قالوا: الرأي أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فان ظهر “محمَّد” على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحبَّ إلينا من أن نكون تحت يدي محمَّد وإن ظهر قومنا فنحن من عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير.

وخرجت هذه الجماعة وفيهم “عمرو بن العاص” بهدايا كثيرة من الحجاز قاصدة أرض الحبشة، وبلاط النجاشيّ بالذات.

وصادف دخولُهم على “النجاشي” ورود “عمرو بن اُميّة الضمري” مبعوث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وحامل كتابه إلى النجاشي يوصيه فيه بجعفر بن أبي طالب، والمهاجرين الآخرين من رفقائه.

فقال “عمرو بن العاص”: لو دخلتُ على “النجاشيّ” بالهدايا وسألته عمرو بن اُميّة فاعطانيه، فضربت عنقه.

فدخل “عمرو بن العاص” على “النجاشيّ”، وسجد له – على النحو الذي كان متبعاً – فسأله النجاشيّ عن حاله، ثم قال: هل أهديت إليَّ من بلادك شيئاً؟

قال ابن العاص: نعم أيها الملك، قد أهديت اليك اُدما كثيراً، ثم قال: أيها الملك اني قد رأيت رجلاً خرج من عندك (ويقصد مبعوث رسول اللّه) وهو رسولُ عدوّ لنا، فاعطنيه لاقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.

فغضب النجاشيّ لمقالة ابن العاص غضباً شديداً فصفعه صفعة كادت أن تكسر أنفه، ثم قال: أتسألني أن اُعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله. ويحك يا عمرو أطعني واتبعه فانه واللّه لعلى الحق، وليظهرنَّ على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، ثم قال: أفتبايعني له على الاسلام؟

يقول عمرو بن العاص: فقلتُ نعم، فبسط يده فبايعته على الاسلام، ثم خرجتُ إلى أصحابي، وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي4.

الوقاية من تكرار التجارب المرة
تركت حادثة “الرجيع” المرّة التي قتل فيها جماعة من قبائل “عضل” و”القارة” من بني لحيان ثلة من دعاة الاسلام غدراً ومن دون رحمة، بل وسلّمت رجلين منهم بقوا على قيد الحياة إلى قريش فصلبَتهما قريش صبراً إنتقاماً من رسول اللّه والمسلمين.

لقد تركت هذه الفاجعة المأساوية المؤلمة ألماً شديداً في نفوس المسلمين، وأحدثت جرحاً عميقاً في ضمائرهم وأدت إلى توقف حركة الارشاد والتبليغ والدعوة.

ولكن في الظروف المستجدة التي استطاع الإسلام أن يزيل – بعد الأحزاب وبني قريظة – كل العراقيل والعقبات عن سبيل المسلمين رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن من الضروري تأديب بني لحيان لتعتبر بقية القبائل، فلا يؤذوا بعد ذلك فرق الدعوة وبعثات التبليغ الإسلامي.

فاستخلف مكانه لإدارة شؤون المدينة “ابن اُمّ مكتوم” في الشهر الخامس من السنة الهجرية السادسة ولم يُظهر لأحد ما يقصده، بل خرج يظهر أنه يريد الشام ليصيب “بني لحيان” على غفلة منهم، فلما وصل الى طريق مكة عرّج حتى نزل بمنطقة تدعى غراب وهي منازل بني لحيان، وقد كان بنو لحيان قد عرفوا بمسير النبي إليهم فحذروه، وتمنعوا في رؤوس الجبال.

وكان غزو المسلمين هذا، وجبن العدو قد تركا أثراً نفسياً قوياً، فأحدث رعباً في قلوب أعداء الإسلام.

واستكمالاً لهذا الهَدف العسكريّ الهامّ عَمدَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى القيام بسلسلة من المناورات العسكرية، واستعراض القوة القتالية في جنوده ليرهب أعداء اللّه القريب منهم والبعيد ولتسمَع بهم قريش خاصة فيذعرهم، فنزل في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان على مقربة من مكة وقد قال من قبل:”لو هبطنا عسفان لرأى أهلُ مكة أنا قد جئنا مكة”.

ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم (وهو موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة وهو واد أمام عسفان بثمانية أميال). ثم عاد مع أصحابه إلى المدينة5.

هذا وكان جابر بن عبد اللّه الأنصاري يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول حين رجوعه من هذه الغزوة:“…. أعوذ باللّه مِن وعثاء السَفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال”6.

غزوة ذي قَرد
لَم يُقم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في المدينة بعد عودته من الغزوة السابقة إلا ليالي قلائل حتى أغار “عيينة من حصن الفزاري” بمساعدة بني غطفان، على إبل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كانت ترعى في منطقة تدعى الغابة (وهي موضع قرب المدينة من ناحية الشام) كانت مرعى أهل المدينة، وكان فيها آنذاك رجل من بني غفار، وامرأة مسلمة له، فقتلوا الرجل، وأخذوا معهم المرأة والإبل.

وكان أول من أخبر الناس بذلك رجل يدعى سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي وكان قد غدا يريد الغابة موشحاً سيفه وقوسه ونبله، يريد الصيد، حتى إذا علا “ثنية الوداع” نظر إلى بعض خيول المغيرين، فصعد على تلّة سلع وصرخ مستغيثاً ومستنجداً: واصباحاه.

ثم خرج يشتد في آثار القوم (المغيرين) فجعل يردّهم بالنبل، ولكن المعتدين لاذوا بالفرار.

وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أول من سمع صراخ ابن الاكوع واستغاثاته، فصرخ صلّى اللّه عليه وآله هو مستغيثاً: الفزع، الفزع. فأسرع جماعة من الفرسان برسول اللّه صلّى الله عليه وآله، فلما اجتمعوا عنده أمّر عليهم “سعد بن زيد الاشهليّ” وقال له:“اُخرج في طلب القوم، حتى الحقكَ في الناس”.

فخرج الفرسان المسلمون في طلب القوم، وخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من ورائهم، حتي أدركوا القوم في ذي قرد، فوقع بين المسلمين، وبين المغيرين قتال قليلُ قتلَ فيه من المسلمين رجلان، ومن المعتدين ثلاثة، واستنقذت المرأة، وبعض الابل المسروقة، ولكن العدوّ لجأ إلى غطفان، فأقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في تلك المنطقة يوماً وليلة، تخويفاً للعدوّ، ولم يَرَ من الصالح ملاحقة العدوّ رغم إصرار بعض المسلمين على ملاحقتهم، واستنقاذ بقية السرح (الابل).

ثم رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قافلاً حتى قدم المدينة7 وكانت هذه الغزوة في الثالث من ربيع الاوّل من السنة السادسة من الهجرة8.

النذر غير المشروع
واقبلت المرأة الغفارية المسلمة التي استنقُذت من أيدي المغيرين على ناقة من إبل رسولاللّه صلّى اللّه عليه وآله حتى قدمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأخبرته بما جرى ثم قالت: يا رسول اللّه إني قد نذرتُ إن نجّاني اللّه على هذه الناقة، أن أنحرها فآكلُ كَبَدها وسنامها.

فتبسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقال:“بئس ما جَزيتيها أن حمَلَك اللّه عليها ونجاك ثم تنحرينها، انه لا نَذر في معصية، ولا فيما لا تَملِكين إنّما هيَ ناقة مِن إبلي فارجعي إلى أهلك على بركة اللّه”9.

وبذلك بَيّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حكماً في مجال النّذر، وهو أن النذر لا يصح في مال الغير، فلا نذر إلا في ملك.

والقصة إلى جانب ذلك تكشف عن الخلق العظيم الذي كان يتحلى به قائد الاسلام الأعلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ولطفه بأصحابه واتباعه، حيث جابه المرأة المذكورة برفق ولطف، وبصّرها بمالها وما عليها في منتهى التواضع والشفقة.


1- يستفاد من السيرة النبوية: ج 3 ص 291 ط 1355 أن خطة اغتيال “سلام” كانت قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة، ولكن بالنظر إلى أن قضية بني قريظة حدثت في التاسع عشر من شهر ذي الحجة يستبعد هذا الرأي.
2- إن السبب او الحكمة في تكليف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الخزرج بهذه المهمة هو أن الاوس قاموا بعملية مشابهة في حق “كعب بن الأشرف” اليهودي الخطر فأراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إقامة توازن في كسب المفاخر بين تينك القبلتين ولذلك أوكل مهمة تصفية هذا اليهودي المفسد إلى رجال الخزرج.
3- السيرة النبوية: ج 2 ص 274و 275.
4- السيرة النبوية: ج 2 ص 276و 277.
5- السيرة النبوية: ج 2 ص 279و 280.
6- تاريخ الطبري: ج 2 ص 254، المغازي: 2 ص 535، إمتاع الاسماع: ج 1 ص 259و 260.
7- تاريخ الطبري: ج 2 ص 255، المغازي: ج 2 ص 536و 549.
8- امتاع الاسماع: ج 1 ص 260و 261.
9- السيرة النبوية: ج 2 ص 381 – 289، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 133، امتاع الاسماع: ج 1 ص 263 قال صاحب الامتاع: وكانت الناقة هي القصواء، والقصواء اسم ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.

المصدر: http://alrasoul.almaaref.org

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى