مقالات

العلم ملتقى الدين والحياة

محمد علي جواد تقي

كيف يثبت الاسلام اهتمامه الكبير بالعلم؟ او بالأحرى ما هو المصداق على ارض الواقع…؟

بين أيدينا عدة احاديث عن الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله، مثل: (طلب العلم فريضة على مسلم ومسلمة)، (اطلبوا العلم ولو بالصين). ولأئمة الهدى صلوات الله عليهم احاديث وتأكيدات مكررة حول ضرورة طلب العلم ابرزها ما ورد على لسان الامام الصادق عليه السلام، لكن بين ايدينا حديث مرويٌ عن النبي صلى الله عليه وآله يقول فيه: (نوم مع علم خير من صلاة مع جهل).

هذا الحديث من شأنه ان يجيب على السؤال المذكور، لما فيه من الاثارة والخصوصية في تناول مسألة العلم ومفاضلته مع فريضة الصلاة حتى وان كان صاحب العلم او العالم في حالة نوم، بينما لا فضيلة للمصلي القائم والمؤدي للفريضة العبادية وهو جاهل.

(ان الصلاة التي هي عمود الدين، إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت ردّ ما سواها). وهذا حديث شريف ومعروف، بمعنى ان صلاح الاعمال العبادية مرهونة بصلاح هذه الفريضة العبادية، ثم ان الله تعالى يقول في كتابه المجيد: (وما خلقت الجنّ والانس الا ليعبدون). أي ان علّة الخلق بالأساس هي العبادة لله وحسب. واذا نعرف ونؤمن ان النبي الاكرم هو رسول السماء وترجمان الوحي، وهو الذي فيه وفي اهل بيته تتجلى الصلاة وجميع انواع العبادات بل تكتسب فيهم صورتها الكاملة. علينا ان نعرف ايضاً انه صلى الله عليه وآله لا يريد لاحد من ابناء امته ان يكون مثل عابد بني اسرائيل الذي جاءه موسى ورآه قائماً وجالساً و راكعاً وساجداً يتعبد الله، فطلب منه تعالى ان يشمله بكرامته، فأوحى الله اليه، ان اسأله عن دوافع هذه العبادة وما الغاية من ورائها؟ فسأله عن أمره، فما كان من ذلك العابد إلا ان قال: ان آسف على كل هذه الارض الشاسعة والخضراء متروكة ولا ينزل الله تعالى حماره ليأكل من هذا العشب الكثير…!!

وفي اوساطنا الكثير ممن يدعون انتسابهم الى الدين، لكن لا نجد من يدعي الانتساب الى العلم والعلماء، ربما لان الفرائض الدينية من صلاة وصوم باتت من السهولة أن لا يشعر احد في معظم الاحيان بثقل مسؤوليتها وآثارها على النفس والسلوك، طبعاً تقليل ركعات الصلاة من (51) الى (17) ركعة، جاء بفضل رأفة و رحمة نبي الاسلام بأمته، لكن امير المؤمنين عليه السلام يقول لنا: (الناس ثلاثة: إما عالم متعلم او طالب على سبيل نجاة او همج رعاع). والصنف الثالث هم الذين يستسهلون الصلاة والصيام، ويعدون العلم وطلبته، وايضاً مدارس العلوم الدينية على أنها مراكز للترف الذهني، لاحاجة لهم به، في حين هنالك تحيط بالانسان الاشكالات في عديد المسائل والاحكام لمختلف شؤون الحياة، لابد من اضاءتها بنور العلم وحلها للحؤول دون الوقوع في المحذور وارتكاب المعصية.

وفي كتابه (العلم النافع) يستبعد سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) وجود جاهل قاصر، لاسيما في اوساط المتعلمين، وهي شريحة لابأس بها في المجتمع، لذا فانه يذهب الى ان الجاهل اذا كان مقصّراً، فانه يكون رديفاً للمتعمد والعاصي، ويقول في كتابه: (ان الفقهاء والمحققين الاعاظم يذهبون الى ان حكم الجاهل المقصّر، هو حكم المقصر في درجة العالم خطاباً وعقاباً). طبعاً هذا لا يبرئ الاخرين المشغولين بتدبير شؤون حياتهم، وإن وضعوا انفسهم في خانة (الجاهل القاصر) الذي لا ذنب عليه، لكن يعني هذا ان يبقى الانسان طيلة حياته راضياً قانعاً بحالة الجهل؟!

فكم من مصلٍ وصائم وحاج، وقد قضوا سنين من عمرهم، ثم وبعد ان يلجوا قليلاً في المسائل والاحكام يكتشفوا انهم كانوا يصلون ويصومون وحتى يخمسون بالطريقة الخاطئة التي لا ترضي الله تعالى. وأمضّ ما نشهده في حالة الجهل بالاحكام خلال موسم الحج، حيث نصادف بعض الحجاج وقد انصرمت أيام أعمال الحج، ثم يتبين انه لم يؤد اعمال الحج بصورة صحيحة بمعنى ان حجه باطل، وقد أفسد حجه وضيع فرصة العمر.

هذا في جانب العلم بالأحكام الشرعية، أما العلم بالجوانب الاخرى التي لا تقل اهمية عن مسائل الحلال والحرام، والتي يشير اليها الحديث النبوي الآنف، فاذا القينا نظرة خاطفة على وضع الساحة الثقافية الراهنة، نجد ان الجهل سيد الموقف، ونحن نضع الاصبع على الجرح مباشرة في النزاع الطائفي العميق الجذور الواسع الابعاد حالياً، فكما يجهل هذا الطرف بان امامه مسلم يحرم عليه دمه وعرضه وماله، ولا يجوز تكفيره ثم ذبحه، يعجز الطرف المقابل – في بعض الاحيان- عن ازالة هذه الغشاوة وتمزيق حجب الظلام ليستبصر الجميع بنور الاسلام الحقيقي المتكامل الذي يمثله الرسول الاكرم واهل بيته صلوات الله عليهم. إذن؛ فالقضية تشمل مسائل الحلال والحرام، كما تشمل ايضاً مسائل العقيدة والتفسير والاخلاق وغيرها مما يسمى في الحوزة العلمية بـ (علوم اهل البيت عليهم السلام)، والتي بشر بها رسول الله بنفسه حيث قال: (انا مدينة العلم وعليٌ بابها).

طبعاً هذا لا يعني ان يكون الاهتمام بالعلم دون الالتزامات الدينية والطقوس العبادية، من اعمال مندوبة مثل الصلاة والصيام وتلاوة الادعية والزيارات. ويدعو سماحة المرجع الشيرازي في كتابه الى حالة التوازن حيث يقول: (مادام المؤمن باذلاً عمره في سبيل الله سبحانه وتعالى، منفقاً وقته وساعاته ودقائق حياته في طاعة الله، مصلّياً أو صائماً أو حاجّاً أو معتكفاً أو قارئاً للقرآن، فليخصّص حظّاً منه للعلم، وأعني به العلم بأصول الدين وأحكام الإسلام وأخلاقه وآدابه).

يروي سماحة المرجع الشيرازي انه دعا (احدهم…) لمطالعة كتب الاخلاق، فاجابه بانه مشغول بالفرائض، فقال له سماحته على الفور: وكتب الاخلاق مشحونة بالفرائض. هذه الرواية التي يستشهد بها المرجع الشيرازي في كتابه (العلم النافع) توضح لنا اهمية العلاقة بين العلم والاخلاق في المسيرة الرسالية للانسان المؤمن الذي يرغب ان يسمى موالياً لاهل البيت عليهم السلام، (يقول الراوي: كنت عند أبي جعفر الثاني – وهي كنية الامام الجواد عليه السلام بين اصحابه حينذاك- إذ دخل عليه صالح بن محمد بن سهل، وكان يتولّى له الوقف بقم، فقال: يا سيّدي اجعلني من عشرة آلاف في حلّ، فإنّي أنفقتها. فقال له: أنت في حلّ، فلمّا خرج صالح قال أبو جعفر سلام الله عليه: أحدهم يثب على أموال حقّ آل محمد وأيتامهم ومساكينهم وفقرائهم وأبناء سبيلهم فيأخذه ثم يجيء فيقول: اجعلنـي في حلّ..!! أتراه ظن أنّي أقول لا أفعل؟ والله، ليسألنّهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالاً حثيثاً).

لنتصور وجود هكذا نماذج من الشيعة المرتبطين بامام معصوم، وكيف ان حبه للمال واغتراره بالمكانة الاجتماعية التي حظي بها بفضل الامام المعصوم، دفعه لان يسقط من هذا الشاهق وهو يحسب انه يحسن صنعا. فالامام عليه السلام يبين لنا ان استئذانه بعد التصرف بالاموال لن يفيده بشيء يوم الحساب امام الله تعالى، لان ما أخذه من الإمام إنّما أخذه حياءً، و(المأخوذ حياءً كالمأخوذ غصباً).

من هنا نفهم قيمة العلم والاخلاق معاً في حياتنا اليومية، كما يجب ان نحذر الصلاة والصيام والحج وسائر الاعمال العبادية الخالية من العلم والاخلاق، وهنا يتبين لنا معنى الحديث النبوي الشريف بأجلى معانيه: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة). فالعلم كما الاخلاق ليس من الفرائض في حكم الشريعة، يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) موضحاً لنا هذه النقطة: (لا يتصوّر أحد أنّ الأخلاق الإسلامية كلّها علوم لا اقتضائية، فكثير مما يعبّر عنه اصطلاحاً بالأخلاق إنّما هو من الواجبات، وضدّه من المحرّمات، فإنّ التكبّر والعُجب – مثلاً- ليسا من المكروهات ـ بالمعنى الأخصّ ـ بل هما من المحرّمات، وكذلك المِراء ـ وهو الجدال بالباطل ـ وغير ذلك ممّا يوصف بالأخلاق الذميمة).

فاذا كنا حقاً حريصين على العقيدة والايمان والقيم الاخلاقية في المجتمع، وهي أمور لا ينكر اهميتها وفضلها عاقل، لابد من إعطاء العلم بها أو تعلّمها ودراستها الاهمية القصوى لاسيما في هذه المرحلة الراهنة، في وقت تتطور فيه الحياة ومستلزماتها وايضاً مسلتزمات وحاجات الانسان، وفي نفس الوقت تطور الحالة الذهنية والفكرية له، مما يستوجب ان يتسلح الانسان المؤمن بقدر كبير بالعلم والمعرفة والاخلاق ليقدم صورة مقبولة للعالم بحيث يجعلونه مصدراً لمراجعة طريقة تفكيرهم ومنهج حياتهم.

المصدر: http://shrsc.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى