إسئلنا

التعارف…

نص الشبهة: 

كثيراً ما نتساءل: ما هي الحكمة من أداء فريضة الحج؟

الجواب: 

للإجابة على هذا السؤال نقول: ان هناك حكماً عديدة تكمن وراء حج بيت الله الحرام، وهذه الحكم يبينها الله جل وعلا في القرآن في أكثر من آية وسورة، كقوله عز من قائل في سورة الحج: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ 1.

فالحج هو معراج روحي للإنسان، كما هو الحال بالنسبة إلى الصلاة. فقد جاء في الحديث الشريف: ” الطواف بالبيت صلاة “.
والحج هو تذويب للفوارق بجميع أنواعها وإثارة، وتأجيجاً لمشاعر الوحدة الاسلامية القائمة على أساس المبادئ السامية، وهو ايضاً حركة اقتصادية واسعة، ومؤتمر حضاري إسلامي عظيم…كل ذلك وغيره يمثل حكما تدفع الإنسان نحو الحج.

حكمة التعارف في الحج

وهنا سوف اركز حديثي على حكمة أساسية من حكم الحج، قد تكون خافية على الكثير منا، الا وهي حكمة التعارف الذي جعله الله سبحانه وتعالى هدفاً وغاية لخلق البشرية، وذلك في قوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ … ﴾ 2.
والتعارف الذي يعني، تعرف الناس على بعضهم البعض، يمثل أساس حضارة الإنسان فوق هذا الكوكب. ونحن نعلم أن كلمة ( الحضارة مشتقة من الحضور، والحضور على نوعين ؛ حضور لجسد مع جسد آخر، وحضور الروح عند الروح، والإرادة لدى الإرادة الاخرى. وبتعبير آخر ؛ هو حضور معنوي يفرز الحضارة والتقدم والتطور لدى الإنسان، لان الإنسان الذي يكون له حضور إلى جنب أخيه الإنسان روحياً ومعنوياً، و يعترف منذ البدء بوجوده وحقوقه، فان هذا الشعور هو الذي يجعل الفردين الحاضرين عند بعضهما يتعاونان. من المعلوم ان التعاون سوف ينتهي بالتالي إلى التقدم والتكامل.

الحضور المعنوي هو الاساس

ولذلك فان الحضارة المستنبطة من فكرة الحضور والشهود، إنما تنفع اذا كانت تعني الحضور المعنوي ولم تكتف بالحضور المادي. فكلما كان حضور الإنسان عند الآخرين اكثر، فان حضارتهم سوف تكون أسرع نمواً وأكثر نضجاً، لان الإنسان الذي يتعاون مع إنسان آخر في جوانب معينة فان الحضارة عندهما ستكون محدودة بحدود تعاونهم مع بعض. ولذلك فاذا كان هناك انسانان مفترقان من الناحية المكانية، كأن يكون احدهما في الشرق والآخر في الغرب، وساد بينهما التعاون من جميع جوانبه، فانهما سوف يستطيعان افراز الحضارة رغم انهما ليسا حاضرين عند بعضهما جسدياً.
ولذلك فان القرآن الكريم يستعمل بدقة مصطلح (التعارف) بدلاً من الحضارة، ذلك لان معرفة البعض بالبعض الآخر، والوعي الحضاري المتبادل، وادراك الإنسان ان عليه ان يتعاون مع الآخرين.. فان كل ذلك هو بداية انطلاق الحضارة من كل موقع.
ومما لاشك فيه ان هذا التعارف يتجسد كأحسن ما يكون التجسد في حج بيت الله الحرام، لان نخبة من أبناء الأمة الإسلامية من كافة الأقطار والطبقات سوف يتوافدون على منطقة واحدة، ويجردون أنفسهم عن الفوارق ؛ ومن ضمن مظاهر هذه الفوارق الثياب، والجدل، والتفاخر بالآباء، والعمل، واستخدام الوسائل الترفيهية.. ولكن هذه الفوارق تذوب جميعها أثناء موسم الحج، كما يقول تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ … ﴾ 3.
فالجدال الذي يفرق بين الإنسان وأخيه الإنسان محرم، وكذلك الفسوق والرفث، وكل ما من شأنه ان يميز انسانا عن انسان آخر.
وهكذا فان الحج هو البوتقة الواحدة التي تذوب جميع الفروق والحدود والحواجز المصطنعة بين ابناء البشر. وقمة هذا الذوبان، هو التعارف. ونحن ـ المسلمين ـ بحاجة ماسة الى هذه الحكمة سواء عبر فريضة الحج، او الوسائل الاخرى.

أهمية التعارف في توثيق العلاقات

ومن اجل ان نبين اهمية التعارف في توثيق العلاقات الاجتماعية والإنسانية نقول: لنفرض انه قد قيل لك ان لك إخوانا مسلمين يعيشون في احدى الجزر النائية تعرضوا لزلزال عنيف وقتلوا نتيجة لهذا الزلزال، فان هذا الخبر من الممكن ان لا يهزك، ولا يثير مشاعرك إلاّ لفترة موقتة. اما لو أخبرت ان زميلاً لك في الدراسة قد كسرت رجله، ورقد في المستشفى، فانك ربما تتأثر اكثر. والسبب في ذلك انك تعرف زميلك هذا، وهو يعيش في وعيك، لان معرفتك به، وذكرياتك معه هي التي تدفعك الى التأثر والتألم.
واذا ما افترضنا انك قد ذهبت الى الحج، وفي اثناء ادائك لمراسم هذه الفريضة تعرفت بشكل او بآخر على اهالي هذه الجزيرة، وتحدثت معهم، فحينئذ سيختلف وقع الخبر السابق بالنسبة اليك، فتبادر الى مشاركتهم الحزن والأسى.

هل نحن في مستوى التعارف

وللأسف فان المسلمين يعيشون اليوم حالة انفصام عن بعضهم. فلا يعرف بعضهم البعض الآخر، إلاّ بقدر معرفتهم بالاخبار العامة.
واذا ما اردنا ان نطرح هذه المشكلة في افق أوسع، فلا بد ان نقول: ان مشكلة العالم الثالث الذي ننتمي اليه، هي مشكلة تخلفنا في مجال التطور العلمي. في حين ان الاسلام جعل طلب العلم فريضة على كل انسان مسلم، والنبي صلى الله عليه وآله يحثنا على طلب العلم قائلاً: “اطلبوا العلم من المهد الى اللحد” و”اطلبوا العلم ولو بالصين” 4، والإمام الصادق عليه السلام يشدد على أصحابه في طلب العلم قائلاً: ” ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال والحرام ” 5.
ان هذا العلم الذي جعله الله عز وجل فريضة، وامرنا ان نبحث عنه، هو مشكلتنا اليوم. في حين ان الغربيين لا يعانون من اية مشكلة في هذا المجال. فعلى سبيل المثال، فان رئيس قسم الشرق الأوسط في مكتبة الكونغرس الاميريكية صرح ذات مرة ان هذه المكتبة مشتركة في (41) ألف نشرة دورية تتحدث كلها عن الشرق الأوسط، وفي الولايات المتحدة الاميريكية هناك المئات من بنوك المعلومات التي تزودنا بالمعلومات عن كل شئ ؛ عن حياتنا، وعن طبيعة اقتصادنا، ومسار سياستنا، وتحركاتنا… وقد ربطوا الآن بنوك العالم في اوروبا بنظيراتها في اميركا، وهذه المعلومات تخزن، لتتم الاستفادة منها، ولذلك فانهم استطاعوا ان يستعمرونا، ويكيدوا لنا، ويمكروا بنا.

ضرورة استقاء المعلومات

ان من جملة واجبات الإنسان المسلم اليوم، والعالم الإسلامي يتسع ومشاكله تزداد، معرفة إخوانه المسلمين. فالمعلومات يحب ان تنتشر الآن بين المسلمين، لان هذه المعلومات هي التي تمثل سلاح الإنسان المستضعف ضد المستكبر. فينبغي ـ اذن ـ على كل مستضعف ان يمتلك المعلومات الكافية، ولذلك يؤكد النبي صلى الله عليه وآله على ان طلب العلم، وقد جعله فريضة على كل إنسان مسلم دون استثناء، ولم يقصدها على الفقهاء او على نخبة معينة أخرى من الأمة.
ونحن ـ للاسف الشديد ـ لا نعرف اين يعيش إخواننا المسلمون، وكيف يعيشون، وماذا يجري على شعوبنا، وما هي أساليب الاستكبار العالمي ازاءهم، وما هي المؤامرات والأساليب التي يستخدمونها في الخداع و التضليل، والدسائس التي يحوكونها ضدنا… كل ذلك نجهله، فكيف نتوقع ان نقاومهم، ونتحرك نحو الوحدة الإسلامية؟!
ولذلك فاني اوصي المسلمين جميعاً ان يخصصوا جزء هاماً من أوقاتهم، للتعرف على إخوانهم في العالم من خلال الجرائد والمجلات، والاتصالات الشخصية عبر السياحة والسفر. وموسم الحج خير فرصة لذلك. لذا يجدر بالمسلم عندما يذهب الى الحج، ان لا يكون همّه التفتيش عن الأمتعة والبضائع الجديدة، بل يتعين عليه ان يحاول جاهدا اقامة جسور العلاقات مع اخوانه مهما كانت انتماءاتهم، وان يتعرف على أحوالهم وافكارهم وتجاربهم في الحياة. فليس من الهين ان يجتمع مليون انسان في مكان واحد يمثلون مجموعة مختارة من صفوة المؤمنين في جميع ارجاء العالم الإسلامي.
﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ 6.
ففي الطريق الى الديار المقدسة يعاني هؤلاء الكثير من المشاكل والصعوبات، ومع ذلك فانهم يتوجهون لأداء فريضة الحج برحابة صدر ورضى، لان تلك الصعوبات والمشاكل تعمل على امتصاص سلبياتهم، وتزيل من التصاقهم بالمادة، وتبلور شخصياتهم، وتلغي الفوارق بينهم، وتزودهم بالنقاء الروحي، فيتجهون ـ بالتالي ـ الى الله جل وعلا وحده.
ولو ان هذا العدد الهائل من المسلمين اتصلوا ببعضهم، واستقى بعضهم من البعض الآخر المعلومات والخبرات، ثم عادوا الى بلادهم محملين بهذه المعلومات القيمة، فكم ستكون هذه المعلومات ذات آثار ايجابية بناءة على مستقبل البلدان الإسلامية. لان هؤلاء الحجاج عندما يعودون الى بلدانهم سوف يشرحون لإخوانهم هناك المعلومات التي حصلوا عليها من إخوانهم المسلمين في مختلف أنحاء العالم، الأمر الذي سيؤدي الى ان يتعرف المسلمون على بعضهم البعض، وبالتالي فان الشعور بوحدة المصير والهدف سيسود بينهم.

الشعور السائد في الحج

فانك عندما تلتقي بالحاج هناك، فانك سوف لاتشعر انك قادم من آسيا وهو من افريقيا مثلاً، وانك أبيص وهو أسود.. بل يسودك الإحساس بأنكما حاجان تلتقيان بعيدا عن جيمع الفوارق والحواجز. وعلى الحجاج ان يستغلوا هذه الحالة المعنوية التي تسودهم في الحج، لكي يلتقوا بسائر إخوانهم المسلمين، ويتعرفوا على ما يعانونه من مشاكل في بلدانهم، وليشرحوا لهم ـ هم بدورهم ـ أوضاعهم، ومشاكلهم.. فلابد من ان ينفتح الإنسان المؤمن على أخيه المؤمن ليتعاونا معا، من اجل حل مشاكلهما.
ان الإنسان المسلم الذي يأتي من أقصى الأرض، وذلك الذي يعيش في مكّة، هما سواء في هذا البيت الذي جعله الله لجميع المسلمين دون فرق، كما يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ … ﴾ 7.

من منافع الحج

ثم يقول عز وجل: ﴿ … وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ … ﴾ 8.
وهذه المنافع التي يشير اليها الله تقدست اسماؤه، لا تقتصر بالتأكيد على الذبائح في منى، بل تشمل ايضاً منافع المسلمين ومصالحهم، لأنه تعالى يقول: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ … ﴾ 9 .
ومن المعلوم انه كلمة (الشهادة) تختلف عن كلمة العلم والمعرفة، لان الشهادة هي وعي عميق. فعندما تقول: اشهد أن لا اله إلا الله. فان هذا يعني انك قد وصلت في علمك الى مرحلة الشهادة، والعلم الحضوري ـ إن صح التعبير ـ.
ثم يضيف سبحانه، مشيراً الى منافع وفوائد اخرى ترتجى من وراء الحج: ﴿ … وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ 9.
فالحج يعمل على تطهير نفوس المسلمين من الادران والنفايات والرواسب التي علقت بهم، لكي يصلوا إلى مرحلة النقاء والصفاء والطهارة والتزكية، وشكر الله تعالى على رزقه إياهم وتوفيره النعم لهم، ولكي يدفعهم الحج إلى الرفق بالإنسان الفقير، وتقديم العون والمساعدة له.. لكي تسود الوحدة والانسجام بين الشعوب والمجتمعات الإسلامية، ويحدث التعارف بينهم ويسهموا في بناء حضارتهم الإسلامية 10.

  • 1. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآيات: 27 – 29، الصفحة: 335.
  • 2. القران الكريم: سورة الحجرات (49)، الآية: 13، الصفحة: 517.
  • 3. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 197، الصفحة: 31.
  • 4. بحار الأنوار / ج 1 / ص177.
  • 5. المصدر / ص 213.
  • 6. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 27، الصفحة: 335.
  • 7. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 25، الصفحة: 335.
  • 8. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآيات: 25 – 28، الصفحة: 335.
  • 9. a. b. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 28، الصفحة: 335.
  • 10. الحج ضيافة الله، آية الله السيد محمد تقي المدرسي، دار محبي الحسين، الطبعة الأولى.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى