التعليم

الازمة الثقافية اسبابها، نتائجها، حلولها …

إنّ أقصى هزيمة تعرّضت لها الأمّة الإسلامية عبر تاريخها الطويل والتي ما زالت آثارها السلبية تسبّب البلاء والأذى هي الهجوم على الإسلام كدين مشتمل على عقيدة ونظام حياة متكامل.
إنّ هذه الهزيمة التي جاءت بعد قرونٍ من الجمود الفكري والحضاري مرّت بها الأمّة بسبب فساد الحكام المسلمين وسوء إداراتهم ومعاركهم الداخلية التي أدّت إلى حالةٍ شديدة من الإحباط، ممّا هيّئ الأرضية المناسبة بعد التغلغل الإستعماري لاستبدال الإسلام الذي يشكّل القاعدة العقائدية الأساس، لمجموعة من العقائد والأفكار الوضعية التي تزامن دخولها مع الغزو البغيض للأمّة، وصارت تتوسّع بتوسّع الحركة الإستعمارية لتكون البديل الذي أُريد للمسلمين أن يعتنقوه بحجّة إدخال الأمّة الإسلامية في العصر الحديث ورفع مستواها إلى مستوى الأمم المتحضّرة والمتقدّمة.
والدليل الأساس الذي استند إليه أصحاب المؤامرة الفكرية هذه، هو أنّ الدين بشكلٍ عام لم يعد ملائماً ومتماشياً مع التطوّرات النوعية الحاصلة في حياة البشرية بسبب الثورة الصناعية الكبرى التي نقلت الإنسانية من نمط حياة تخلّف إلى نمطٍ آخر فيه الإستخدام الأفضل لوسائل الحياة المادية التي وفّرت على الناس الكثير من التعب والوقت الذي كانوا يحتاجون إليه حسب النمط السابق على النهضة الصناعية.
والأمّة الإسلامية من موقع ضعفها أمام جحافل الإستعمار قد صدمها فداحة الهزيمة وقساوتها، وسعى المستعمرين من موقع زهوه وانتصاره وقوّته المادية إلى استغلال هذا الضعف وإشعار المسلمين بأنّ الدين الإسلامي هو السبب المباشر لانحطاطهم وهزيمتهم، وظهر بين مفكري الأمّة أيضاً من شجّع هذا التوجّه تبعاً لحركة الإستشراق التي رسمت الإسلام على أنّه شكّل مرحلة من مراحل التاريخ البشري وقدّموه لنا بالطريقة التي لا تتناسب مع التطوّر الحاصل، وصارت آراؤهم مورد القبول والإعتبار حتّى عند المسلمين أنفسهم، وبهذا التمهيد تمّ إدخال الأمّة الإسلامية ضمن الحركة الفكرية المعاصرة التي يغلب عليها الطابع الوجودي البحت، بدءا ًمن الأنظمة الحاكمة التي استمدّت تشريعاتها من أنظمة الدول الإستعمارية وصولاً إلى الحركة الثقافية والفكرية بين أفراد الأمّة الذين انقسموا في الآراء حول أفضل العقائد الوضعية التي تتناسب مع حالة الأمّة لدفعها إلى الأمام لأخذ دورها بين أمم العالم إستناداً إلى هذا الفكر.
هذا هو التحليل الأكثر رواجاً عند الناس حول سبب ابتعاد المسلمين عن إسلامهم، وإن كنّا نعتقد أنّ هذا السبب الذي يبدو معقولاً ومقبولاً في الظاهر، والذي حاول بعض مفكري الإسلام مثل سيّد قطب في كتابه “المستقبل لهذا الدين” أن يطبّقه ضمن مقولة أخذ بها وهي “أنّ الإسلام وإن تعطّل دوره إلاّ أنّه بعد انحسار الموجة الديمقراطية على النمط الغربي لأنّها لا تقوم على أساس فكري وسوف تسقط أمام الفكر الشيوعي القائم على قاعدة فكرية، ثمّ إنّ هذا الفكر لن يستطيع أن يملأ عقل الإنسان وقلبه، وهذا ما سوف يؤدّي بالبشرية لأن تعود إلى الإسلام ليبني حياتها بأبعادها الدنيوية والأخروية بالخصوص التي لا يستطيع الفكر الشيوعي أن يجد لها تفسيراً ضمن مبادئه وأسسه الفكرية.
إنّ هذا الكلام يعتبر تسليماً بالهزيمة وقبولاً بالتغيير الخاطئ الذي روّج له المستعمرون كثيراً حتّى أقنعوا أجيالنا السابقة والحاضرة به، ويعتبر متماشياً مع الهدف الإستعماري وهو جعل العالم الإسلامي يتفاعل مع الواقع من ضمن الأسس والمبادئ التي رسمتها القوى الإستكبارية لحركة الأمم والشعوب والأنظمة عن قصدٍ وعن غير ذلك.
ومع كلّ تلك التغييرات التي أحدثها الإستعمار في بنية عالمنا الإسلامي، إلاّ أنّه بقي يعيش هاجس الخوف من الإسلام الذي استمرّ في حياة المسلمين جنباً إلى جنب ولكن من دون أن يكون له الموقعية الريادية في إدارة شؤون الأمّة، واقتصر دوره على بعض الطقوس العبادية والأحوال الشخصية، لأنّ الأمّة رفضت بعناد أن تنسلخ عن دينها إلى ذلك الحد الذي يجعلها في الموقع المقابل تماماً والمتنكّر لدينها وتراثها وتاريخها الذي صار جزءاً من ذاتها وحقيقتها.
ولا شكّ أنّ قهر إرادة الأمّة بواسطة الأنظمة التي استعملت كلّ أساليب القوّة والضغط والإكراه لجعل الشعوب تعتنق الفكر المادي بتوجُّهاته كافّة لعب دوراً سلبياً كبيراً في تحطيم آمال الأمّة التي لم تستطع الإنسلاخ عن كلّ قيمها لتنخرط في عالم القرن العشرين بكلّ ما يرمز إليه من ابتعادٍ عن الدين وأخلاقياته، ولم تتمكن أيضاً من العودة إلى إسلامها لوجود الموانع القائمة وهي الأنظمة وحالة الإحباط وعدم وجود القدوة التي تعيد للأمّة القوّة التي فقدتها بابتعادها عن أصالتها، وهكذا عاشت الأمّة حالة قاسية من الضياع وهي تتأرجح بين الأصالة والحداثة ففقدت كلا الأمرين معاً، وظهر كأنّ الأمّة قد استسلمت لقدرها الذي كُتب لها، والذي ساعد في الوصول إلى هذه النتيجة المأساوية سلسلة الهزائم والتنازلات التي ضربت بعمق الكرامة والعزّة للأمّتين العربية والإسلامية عموماً أمام الكيان الغاصب “إسرائيل” التي لم تتخلّ يوماً عن عقيدتها في حربها ضدّ العرب، وتعتبر أنّ امتداد معركتها مع المحيط يصل إلى أبعد نقطة في العالم يتواجد فيها المسلمون، وهي تتسلّح وتقوّي ترسانتها إنطلاقاً من هذا الأساس.
وهكذا لعبت كلّ تلك العوامل السلبية دورها الخطير والمدمّر الذي أوصل الأمّة إلى الشعور بالهزيمة في نفسها، ممّا ساعد كلّ المتآمرين من القوى الإستكبارية في العالم والأنظمة على التحكّم بمسار الأمّة وفرض كلّ ما يريدون عليها من دون أن تمتلك الأمّة السلاح الذي تدافع به عن نفسها في مواجهة كلّ ذلك.
هنا، جاء انتصار الثورة الإسلامية في إيران وبقيادة دينية علمائية وعلى رأسها مرجعية مميزة هي الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه لتضع حدّاً لحالات اليأس والإحباط والضعف عند الأمّة، وأثبتت الثورة قيادةً وشعباً ونظاماً وتخطيطاً وثباتاً في مواجهة التآمر الداخلي والخارجي قوّة الإسلام وقدرته على صناعة الحياة الحرّة الكريمة بعيداً عن الإرتهان إلى القوّة الإستكبارية في كلّ المجالات، وبدءاً من النظام وصولاً إلى أصغر تفصيلٍ يتعلّق بحركة المجتمع، والسلاح كان هو العقيدة الإسلامية التي تسلّح بها الشعب المسلم بوحي من قيادته الحكيمة، وتمكّن من صنع الإنجاز التاريخي الأهم في هذا القرن وهو الإنتصار على أقوى دولة إقليمية في المنطقة من دون الإستناد إلى قوّة عالمية في ذلك كما هو المتعارف في تاريخ الثورات في عصرنا الحاضر، وكسرت الثورة بانتصارها الإحتكار العالمي الذي مارسته القوّتان العظيمتان على الشعوب ومصيرها ومقدّراتها، وخرقت الثورة كلّ الحواجز لهذا العصر وارتبطت بماضيها المشرق وبقيادة تستمدّ شرعيّتها من ذلك التراث الإلهي المستمر لتدخل بالإسلام وبقوّة إلى قلب القرن العشرين وتؤثّر فيه تأثيراً مميزاً.
ولعب استمرار الثورة وثباتها الدور الأبرز في عودة الأمّة إلى الأصالة المفقودة، وبدأت التأثيرات الحيّة تظهر في التراجع الملحوظ لكلّ الفكر المعلّب والمستورد جاهزاً ليعتنقه المسلمون، وبدأ التنامي الإسلامي من جديد ليستقطب أجيال المسلمين، خاصة الشباب الذي وجدوا في الإسلام حيويّتهم وحركتهم الثورية المنبعثة من نفوسهم والتي لم تستطع الأنظمة والأفكار التي تروّج لها من أن تحرّكها فيهم، ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل إنّ قسماً مهمّاً من المفكّرين والمثقفين الذين كانوا من أنصار الفكر الوضعي عموماً تخلّوا عنه، وعادوا إلى الإسلام ليتمسّكوا به منطلقاً وليعملوا له هدفاً، وهذا ما أكسب الحالة الإسلامية أيضاً قوّة في ثباتها وتجذّرها، وبدأت تستقطب الكثيرين ممّن كانوا قد فقدوا الأمل، ويعيشون انتظاراً لحدثٍ كبير لعلّه يوحي إليهم بالأمل ويعيدهم إلى الحركة في الحياة من جديد.
وهذا الفكر الإسلامي الأصيل هو الذي دفع بالجيل الملتزم به حديثاً إلى خوض غمار الجهاد المقدّس ضدّ الأعداء وخاصة “إسرائيل” واستطاع سلاح الجهاد من منطلقه العقائدي الإسلامي إيقاع الهزيمة للمرّة الأولى في تاريخ الصراع مع هذه الغدّة السرطانية المزروعة في قلب عالمنا الإسلامي، ممّا أعطى حركة الإسلام قوّةً وزخماً إضافيين بسبب مقارنة الشعوب لآثار المعركة بين المسلمين الملتزمين من جهة وبين إسرائيل، وبين الأنظمة ذات الطابع العلماني وإسرائيل من جهةٍ أخرى، وبهذا شكّلت الثورة الإسلامية في إيران والمقاومة الإسلامية في لبنان النموذجين الحيين للشعب الفلسطيني المظلوم الذي انتظر الأنظمة طويلاً، فإذا بها توصله إلى اليأس من خلال سعيها لبيع قضيّته بمقولة باطلة هي “الأرض مقابل السلام”.
ذلك الشعب المستضعف وجد في الإسلام القوّة والشجاعة، وقام بانتفاضته الرائعة التي ما زالت مستمرّة وقد قاربت على الوصول إلى بداية السنة الخامسة لها، وتقدّم الشهداء كلّ يوم، من دون أن تضعف وسلاحها الإسلام ثمّ الحجر كتعبيرٍ عن إرادة الجهاد ضدّ العدو المتسلّح بكلّ أنواع أسلحة الفتك والدمار.
ولم يقتصر امتداد الحركة الإسلامية على هذه المواقع، وإنّما صار حالة في كلّ بلدٍ إسلامي في العالمين العربي والإسلامي، وصارت تشكّل عنصر ضغط على الأنظمة المنهزمة التي ترى في الإسلام عدوّاً لها، فجعلت نفسها في الخندق نفسه مع القوى الإستكبارية في مواجهة هذا المدّ المتنامي الذي لن يتوقف حتّى يصل بعون الله في خاتمته المرجوّة وهي “إقامة الوطن الإسلامي” البديل عن كلّ هذا الواقع الذي يحاول وبرعاية الإستكبار العالمي مباشرة محاصرة هذا المد الجماهري للإسلام ومحاربته بشتّى الوسائل لمنعه من الوصول.
ولهذا فنحن نرى أنّ “مؤتمر السلام” الذي بدأ في مدريد، ما هو إلاّ محاولة لاستباق التطوّرات التي قد تحصل في عالمنا العربي والإسلامي، لجعل إسرائيل كياناً مقبولاً يتعاون مع المحيط على ضرب الحركات الإسلامية التي جعلت من قتال إسرائيل “عدوة الله والإنسانية والأمّة الإسلامية” الهدف الأساس لها على مستوى عالمنا الإسلامي، وهذا نفسه ما أشعر الأنظمة القائمة بالخطر الفعلي على سلطتها المفروضة بقوّة الحديد والنار على الشعوب، والمستسلمة أمام إرادة القوى الإستكبارية والمنقذة لتوجُّهاتها، والمحافظة على امتيازاتها في بلداننا أيضاً، لأنّها تعلم أنّ سيف الحالة الإسلامية سيطالها كما يطال إسرائيل تماماً.
من هنا، فإنّ المعركة الدائرة حالياً في عالمنا الإسلامي بين الرجوع إلى الأصالة التي صار لها جماهيرها المؤمنة بها، وبين الحداثة بمنظورها العلماني، سوف تنتهي بانتصار الإسلام الذي هو قدر هذه الأمّة، لأنّه الذي صنع تاريخها وما يزال قادراً على صنعه، ولأنّها بغيره لم تستطع أن تحافظ على وجودها الحرّ الفاعل والمستقل، بل انتقلت من خلاله إلى مواقع التبعيّة والإستضعاف أمام القوى الإستكبارية في العالم.
وقد صدق الإمام الخميني قدس الله روحه الزكية: “إنّ هذا القرن هو قرن انتصار المستضعفين على المستكبرين”، ولن يكون ذلك اليوم بعيداً، طالما أنّ الأمّة الإسلامية قد استطاعت بعد عقودٍ من الضياع والدوران في الحلقات المفرغة أن تحدّد السبيل الذي ينبغي عليها أن تسلكه لتستعيد حقوقها المهضومة والسليبة على أيدي قوى الإستكبار العالمي وإسرائيل التي تشكّل قاعدتها المتقدّمة في عالمنا الإسلامي، ذلك الطريق هو “الإسلام”.
والحمد لله ربّ العالمين1.

  • 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى