الجهاد و الشهادة

سنن النصر والهزيمة

الموعظة القرآنية:
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾1.

كيف ننتصر؟
يمكن تقسيم عوامل تحقّق النصر في الحرب إلى قسمين: عوامل مادية وعوامل معنوية، وفيما يلي نستعرض نبذة عن أهم هذه العوامل.

الإعداد العسكري الجيد
تُعتبر الجهوزية القتالية، وتوافر الإمكانات والعتاد الحربي، والاستمرار في التدريب العسكري والتخصّصي من العوامل المادّية المؤثّرة في انتصار قوّة عسكرية ما. وإنّ توفير هذه العوامل بالشكل الكامل والمطلوب كان بوحي من قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ…﴾2, وهو ما يُثبت بدوره أنّ القرآن الكريم قد رأى في تأمين كافة العوامل المادية سبباً من أسباب تحقيق الانتصار في الحرب.

ولأجل أن يتمكّن المسلمون من الحصول على هذه العوامل المادّية المؤثّرة في صناعة النصر ومن القيام بالتكليف الملقى على عاتقهم، ينبغي لهم من جهة أن يتعلّموا كلّ العلوم والفنون الحربية، ويزيدوا من قدراتهم العسكرية يوماً بعد يوم. كما ينبغي عليهم من جهة أخرى أن يُؤمِّنُوا، وعلى قدر استطاعتهم، أحدث الأسلحة وأكثرها تقدّماً، مثلما كانت سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والتي لا يخالفها جميع العقلاء والخبراء العسكريون.

وكذلك، تُعدّ القوات البشرية الكافية أحد الأركان الأولى للحرب، والتي ليس هناك من شكٍّ في ضرورة تهيئتها وتربيتها. ويدرك الاختصاصيون العسكريون أهمّيّة مثل هذه العوامل – كمّاً وكيفاً – وهم يعملون على القيام بما يلزم لتأمينها.

وفي هذا الصدد يقول الإمام القائد الخامنئي دام ظله: “على القوات المسلحة تقوية بنيتها من الناحية العلمية والإعدادية والانضباطية والنظامية، كما يجب أن تكون في أعلى درجات المعنويات وتثبيت القلوب على الإيمان”3.

الإمدادات المعنوية والغيبية
إنّ ما يجب إيلاؤه أهمّيّة أكبر في هذا البحث، هو العوامل المعنوية للنصر والتي تأتي الامدادات الغيبية على رأس هذه العوامل, نظراً لكونها العوامل الرئيسة في تحقيقه. وفيما يأتي شرح مفصّل لها. المراد من “الإمداد” هو “تقديم المساعدة”، ومن “الإمدادات الغيبية” هو “إيصال النصرة الخفية”، والذي يَحدثُ من قبل الله تعالى، ويعدُّ أحد العوامل المهمة لانتصار المسلمين.

وقد ذُكِرَت في العديد من آيات القرآن المجيد، نماذج من الإمدادات الغيبية الإلهية التي كانت تفاض على المجاهدين طوال التاريخ الماضي، وخصوصاً تاريخ صدر الإسلام. ولقد تجلّت – ولا تزال – الإمدادات الإلهية للمجاهدين بصورة مختلفة، ومن أهمّها:

إيجاد الخوف في قلوب العدو:
إنّ الأشخاص الذين لديهم اطلاع بشؤون الحرب وأحوالها، يعلمون أن تحلّي المقاتلين بالشجاعة وعدم الخوف هو أحد أهم عوامل الانتصار. ولأجل تقديم النصر للمؤمنين، فقد نزع الله تعالى هذه الروحية من العدو، وألقى بدلاً عنها الخوف والرعب من قدرة المسلمين في قلوبهم، مثلما شاهدنا ذلك جلياً في معارك صدر الإسلام المختلفة، حيث يقول تعالى متحدّثاً عن أوّل معركة بين الإيمان والكفر، معركة بدر، فيقول تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾4.

وبعد إثارة حماسة المسلمين للمشاركة في غزوة “حمراء الأسد”5، يقول تعالى أيضاً: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾6.

والسبب الأساس في انتصار المسلمين على يهود “بني قريظة” كان أيضاً الإمداد الإلهي، حيث يقول تعالى: ﴿وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقً﴾7.

كما أنّه كان السبب كذلك في الانتصار على يهود “بني النضير” فدفعهم ليخربوا بيوتهم بأيديهم، حيث يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾8.

ولقد كان انتصار المسلمين عن طريق إلقاء الخوف في قلوب الأعداء من الأهمّيّة بمكان أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعتبره أحد خصوصيّاته الإلهية، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: “أُعطيتُ خمساً لم يُعطَها أحدٌ من قبلي… ونُصرتُ بالرّعب”9.

نصرة الملائكة:
يُقدَّم النوع الثاني من الإمداد الإلهي بواسطة الملائكة، حيث يرسلهم تعالى لمساعدة المسلمين، وليسرّع في انتصار المؤمنين على المشركين من خلال تقوية معنوياتهم. وقد تحدّث القرآن المجيد عن مثل هذا الإمداد الغيبي في معركة بدر، فقال تعالى: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ﴾10.

ولأجل دفع المسلمين وحثّهم على الاشتراك في غزوة “حمراء الأسد” يعدهم الله بمثل هذه النصرة، فيقول تعالى: ﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾11.

كما ويصف نصرة المسلمين عن طريق الملائكة في معركتي الأحزاب وحنين، فيقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرً﴾12.

ويقول تعالى أيضاً: ﴿ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ﴾13.

إنزال السكينة على المؤمنين:
انطلاقاً من أنّ عوامل مختلفة كالخوف والشكّ في الهدف، تؤدّي إلى تخريب روحية المجاهدين ومعنوياتهم، فإنّ الله تعالى لا يخرج ذلك من قلوبهم فحسب، بل يُلقِي بدلاً منها السكينة والطمأنينة. فخلال أحداث “صلح الحديبية” مرّ المسلمون في ظروف صعبة أوجدت التزلزل في نفوس ضعاف الإيمان. فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبشّر بدخول المسجد الحرام ولكنّ المسلمين لم يدخلوه حينها، وكانوا قد أَحْرَمُوا للعمرة، فمنعهم المشركون من أداء مناسكها، فاضطروا للخروج من إحرامهم، إلى ذبح أضحية. كما أنّ قبول بنود الصلح كان ثقيلاً وصعباً على البعض منهم.

وفي مثل تلك الأوضاع، كان أن أنزلَ اللهُ سكينتَهُ على قلوبهم، حيث أشار القرآن المجيد إلى هذا بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمً﴾14. والمراد من السكينة هو الهدوء والاطمئنان، والتي يزول معها كلّ نوع من أنواع الشكّ والتردّد والخوف، وتثبت أقدامه في خضم الحوادث الصعبة.

وكذلك كان الأمر في معركة “حنين” التي فرّ فيها كثير من المسلمين، حيث عُدَّ نزول السكينة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين منَ الإمدادات الإلهية التي تُضاف إلى الإمدادات الغيبية الأخرى، حيث يقول تعالى: ﴿ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ﴾15.

كيف يمكن أن ننهزم؟
يستفاد من منطق القرآن المجيد أنّ لعوامل الهزيمة جذوراً تضربُ في أعمال الإنسان وسلوكه، حيث يقول تعالى: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدً﴾16. وعليه ينبغي على المجاهدين أن يسارعوا بعد كلّ انتكاسة إلى تقويم نتائج أعمالهم والوقوف على نقاط ضعفهم وتقصيرهم، ويعمدوا إلى رفعها وجبرانها، لا أن ينسبوها إلى الله أو أشخاص آخرين، فيغفلوا عن إصلاحها، فيتعرّضون للهزيمة مرّة ثانية لتلك الأسباب نفسها.

وتنقسم عوامل الهزيمة كعوامل النصر إلى عاملين: مادي ومعنوي وكما هو الحال في العوامل المادّية للنصر، تبحث العوامل المادّية للهزيمة في إطار العلوم العسكرية. ولهذا سوف نتعرّض في هذا الدرس لأهم العوامل المعنوية للهزيمة.

فقدان البصيرة:
يؤدّي عدم المعرفة الحقيقية بالله تعالى – مبدأ وأصل كل قدرة في عالم الوجود- وعدم التوكّل عليه، إلى تزلزل المعنويات وإلى الاضطراب في أوقات الشدّة والمصاعب. كما ويؤدّي إلى وقوع الإنسان في التردّد والحيرة حينما يجب عليه أن يختار بين الدنيا والآخرة طريقاً يسلكه، ومن ثمّ إلى أن يعزمَ على أمر خاطئ. ومن جانب آخر، وعلى أثر حدوث الانتصارات الظاهرية، يؤدّي عدم معرفة هذا المبدأ إلى بروز الغرور والعجب، وتبدّل الانتصارات إلى هزائم، أو إلى سوء الاستفادة من هذه الانتصارات، ومنع النتائج المترتّبة عليها من أن تكون من نصيب المجاهدين.

وفي هذا الصدد يقول الإمام القائد الخامنئي دام ظله: “قوات الحرس يجب أن تعرف دورها وموقعها، وتكون على بصيرة، وتتمتع بالوعي السياسي، والإطلاع على الزمان والمكان، وتمتلك التحليل السياسي الصحيح حول الأحداث الداخلية والخارجية”17.

التفرقة:
لقد نهى القرآن المجيد المجاهدين عن التفرقة والخلاف، واعتبرها سبباً لزوال قدرتهم وشوكتهم: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾18.

ويشير أمير المؤمنين عليه السلام إلى أنّ الهزيمة هي من نصيب أولئك الأشخاص الذين تخلّفوا عن الاتحاد ونصرة بعضهم البعض، حيث يقول عليه السلام: “غُلِبَ والله المتخاذلون”19. وفي مورد آخر، أبرز الإمام عليه السلام انزعاجه وقلقه جرّاء اتحاد مخالفي الحقّ، وتفرّق أهله ونزاعهم فيما بينهم، فقال: “والله يميتُ القلبَ ويجلِبُ الهمَّ اجتماع هؤلاء القومِ على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم”20.

فالأشخاص المُبتَلُون بالخلافات الداخلية لا يُفيدهم وجود العوامل المادية ولا المعنوية، ولذا نجد أمير المؤمنين عليه السلام يقول بهذا الشأن: “إنّه لا غَنَاء في كثرة عددِكم مع قلّة اجتماع قلوبكم”21.

وقد أشار القرآن الكريم على هذا الصعيد، إلى ما جرى مع المسلمين في معركة أُحد، وكيف أنّ الإمدادات الغيبية رُفِعَت من بينهم عندما تنازعوا فيما بينهم واختلفوا، حيث قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾22.

وفي هذا الصدد يقول الإمام الخامنئي دام ظله: “علينا أن نقصي روح الفرقة من أعماقنا، وأن نتجنّب إثارة المسائل التي تجلب الاختلاف، وعلينا أن نَعدّ ذلك من الممنوعات الدينية والشرعية”23.


ويقول أيضاً دام ظله: “عليكم استبدال حالة التشنّج بحالة المحبّة والتفاهم. فإنّ المحبّة سترتقي بالعمل إلى درجة الكمال. وإذا غابت وحلّ مكانها التنافر، فلن يبقى للعمل أي وجود”24.

العصيان:
مثلما تُعدُّ طاعةُ القائد في الحرب سبباً من أسباب النصر، كذلك يُعدُّ عصيان أوامره علّة لهزيمة المجاهدين. وقد نقل عن الإمام عليّ عليه السلام بهذا الشأن قوله: “آفّةُ الجُند مخالفةُ القادة”25.

وبالالتفات إلى هذا الأصل، نجده أيضاً يكتبُ إلى عامله عثمان بن حُنيف فيقول: “… فانهَد بمنْ أطَاعكَ إلى منْ عصَاكَ، واستغنِ بمنْ انقادَ معكَ عمَّن تَقاعسَ عنكَ، فإنَّ المتكَارِهَ مَغِيبُهُ خيرٌ من مَشهَدِهِ، وقُعودُهُ أَغنَى مِن نُهوضِهِ26.

حيث إنّ عصيان القوات الموضوعة تحت أوامر أحد القادة، يسلب هذا القائد القدرة على القيام بأي عملٍ، ويضعفه عن النهوض بمسؤولياته، ولقد كانت أكثر شكايات الإمام عليّ عليه السلام من جنده، ترجع إلى عدم طاعتهم له. ولهذا السبب، كان يتمنّى أن يعاوضَ عشرة من جنده لقاء جندي واحد من جنود معاوية المطيعين27، لأنّهم كانوا يطيعون معاوية مع عصيانه، بينما كان جنود الإمام عليّ عليه السلام يعصونه مع طاعته لربِّه.

وأحد انتقاداتِ القرآن المجيد لبني إسرائيل كانت أنّهم تمرّدوا على طاعة موسى عليه السلام في حربه لدخول بيت المقدس، واعتبروه وحده المسؤول عن الحرب، حيث جاء في قوله تعالى: ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾28.

وتعود علّة الهزيمة في بعض معارك صدر الإسلام إلى عصيان الأوامر أيضاً، مثلما حدث في معركة أُحد، حيث هُزِمَ المسلمون لعدم عملهم بما طلبهُ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم منهم. وكذلك الأمر في صفّيّن، فإنّ عدم وصول الحرب فيها إلى نتيجتها المرجوة، وما لحق المؤمنين من خسائر بعدها، يَرجعُ جميعه إلى عدم طاعة أمير المؤمنين عليه السلام. كما أنّ تمرّد الجُند وعصيانهم هو الذي أجبر الإمام الحسن عليه السلام على إقامة الصلح مع معاوية.

المفاسد الأخلاقية:
يعدُّ شيوع المفاسد الأخلاقية بين القوات العسكرية المجاهدة سبباً آخراً لضعف القوى المعنوية، وفي النتيجة لهزيمة هذه القوات. وإحدى هذه المفاسد التي لها دور أبرز من غيرها، والتي أشار القرآن المجيد إليها صراحة، هي مفسدة العجب والغرور.

فإنّ عُجُبَ الإنسان وغروره يعميانه عن مشاهدة الوقائع والحقائق، ويجعلانه يظنّ أنّ جميع الظروف والمعطيات هي تحت سيطرته وتعمل لمصلحته. فالإنسان المغرور والمعجب بنفسه، يغفلُ عن التدقيق في الجوانب المختلفة لمسألة من المسائل، وهو ما يؤدّي إلى نزول الضربات به. وكذلك يسبّب العجب الاعتماد على النفس بدلاً من الاعتماد على الله. وبفقدان هذا المعتَمد الراسخ، يصير السقوط والتراجع أمراً حتمياً وغير قابل للاجتناب.

وكنموذج من التاريخ، يمكن أن نُدقّق النظر في وقعة حُنين. فقد أصاب المسلمين الغرورُ لِمَا رأوه من كثرة عددهم، وتوقّعوا أن يكون النصر الحتمي حليفهم جرّاء ذلك، حتى قال بعضهم: “لن نُغلَب اليوم من قلّة”29.

وفي هذه الحالة، جعلتهم لا يُراعون الأصول العسكرية، فما أن نزلوا الوادي حتى أُخذوا على حين غرّة، وانفرط عقدُ صفوفهم عند أول هجوم للعدو وفرارِ عدد من طلائع الجيش ومقدّمته، وما لبث أن فرّ أغلبهم أيضاً. وقد تحدّث القرآن المجيد عن هذه الواقعة، حيث قال تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾30.

لقد كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد الانتصارات في بدر، وفتح مكة…، يحرص كثيراً على شكر الله على النصر الذي منّ به على الإسلام والمسلمين، ويُعلِّم المجاهدين أن يتّقوا من العجب والغرور، وأن يعتبروا أنّ النصر من عند الله تعالى.

* كتاب باب الأولياء، سلسلة الدروس الثقافية، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.



1- سورة محمد، الآية 7.
2- سورة الأنفال، 60.
3- جمهوري إسلامي، 5/8/1370هـ.ش(1991م).
4- سورة الأنفال، الآية 12.
5- اسم مكان على بُعدِ ثمانية أميال من المدينة، حيث أُمر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من قبل الله أن يتعقّب المشركين إليه، مباشرة بعد معركة أُحد.
6- سورة آل عمران، الآية 151.
7- سورة الأحزاب، الآية 26.
8- سورة الحشر، الآية 2.
9- بحار الأنوار، ج8، ص38.
10- سورة آل عمران، الآية 124.
11- سورة آل عمران، الآية 125.
12- سورة الأحزاب، الآية 9.
13- سورة التوبة، الآية 26.
14- سورة الفتح، الآية 4.
15- سورة التوبة، الآية 26. طبعاً يعتبر بعض المفسرين، أنّ نزول السكينة في حنين اختصّ بالأشخاص الذين استقاموا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثبتوا.
16- سورة النساء، الآية 79.
17- جمهوري إسلامي، 28/6/1370هـ.ش(1991م).
18- سورة الأنفال، الآية 46.
19- نهج البلاغة، الخطبة 34.
20- (م. ن)، الخطبة 27.
21- (م. ن)، الخطبة 118.
22- سورة آل عمران، الآية 152.
23- حديث ولايت، ج 1، ص143.
24- (م.ن)، ص257.
25- عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، تحقيق الشيخ حسين الحسيني البيرجندي، ط1، دار الحديث، ص182.
26- نهج البلاغة، الخطبة 4.
27- راجع، نهج البلاغة، الخطبة 96.
28- سورة المائدة، الآية 24.
29- الشيخ المفيد، الإرشاد، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لتحقيق التراث، الثانية، 1414 – 1993 م، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت – لبنان، ج1، ص140.
30- سورة التوبة، الآية 25.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى