أسئلة وأجوبةالتعليممقالات

العصبية والتعصب …

أولاً: المعنى اللغوي للعصبية

ورد لهذه الكلمة معانٍ متعدّدة في قواميس اللغة العربية، إلاّ أنّ أبرز المعاني المتعارفة منها والمستعملة هي التالية:

  1. العصبية: وتعني (أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين). و “العصبي هو (من يعين قومه على الظلم) أو (من يغضب لصحبته وعصبته ويحامي عنهم).
  2. العصبة: وتعني (الأقارب من جهة الأب، لأنّهم يعصبونه ويتعصّب بهم أي “يحيطون به ويشيد أمره بهم”).
  3. العِصابة: وتعني (العمامة)، وكل ما يُعصب به الرأس، وقد اعتصب بالتاج والعمامة.
  4. العُصبة: وتعني (الجماعة ما بين العشرة إلى الأربعين)، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم ﴿ … وَنَحْنُ عُصْبَةٌ … ﴾ 1 وليس لهذه الكلمة مفرد وهي فقط لفظة “جمع”.

وما يهمّنا من معاني هذه الكلمة بكلّ اشتقاقاتها اللغوية هو “المعنى الأول”، والذي يتبيّن منه أنّ “العصبية” هي (الدفاع عن الأقارب أو عن المرتبطين بإنسانٍ ما سواء كان ذلك الإرتباط دينياً أو مذهبياً أو مسلكياً أو وطنياً أو أيّ رابط غير ذلك، دون أن يكون هذا الدفاع مستنداً إلى حقّ للمدافع عنهم).

ثانياً: مصدر العصبية

للنفس البشرية أربع قوى تجمع في طيّاتها كلّ فضائل الأخلاق ورذائلها أيضاً، وهذه القوى هي:

  1. قوّة عقلية ملكية: ووظيفتها إدراك حقائق الأمور، والتمييز بين الخيرات والشرور، والأمر بالأفعال الجميلة، والنهي عن الصفات والأفعال الذميمة القبيحة.
  2. قوة غضبية سبعية: وهي التي تصدر عنها أفعال السباع من الغضب والحقد والحسد والعداوة، والإعتداء على الناس بكلّ أنواع الأذى.
  3. قوة شهوية بهيمية: وهي التي تصدر عنها الأفعال المرتبطة بشهوة الجنس وشهوة البطن والحرص على الملذّات والشهوات.
  4. قوة وهمية شيطانية: ووظيفتها اختراع أساليب المكر والحيلة والدهاء، والتوصّل إلى مرادات الإنسان وأهدافه بالخداع والكذب وما شابه ذلك.

والأساس في هذه القوى الأربع للنفس هي “القوى العقلية الملكية “التي تدرك ما يجب فعله وما لا يجب، وهي التي تضبط حركة قوى النفس الثلاث الباقية حتّى تبقى ضمن حدود الشرع الحنيف فلا تخرج عن الضوابط والموازين الإسلامية.
ولذا يُقال للنفس التي تغلب قوّتها العقلية القوى الأخرى في النفس بأنّها “النفس المطمئنّة” لأنّ القوى الثلاث تأتمر وتنزجر بالقوّة العقلية التي تحدّد قواعد السلوك وأين ينبغي التوقّف وأين ينبغي الفعل.
وأمّا إذا كان هناك تنازع وتدافع بين القوة العقلية والقوى الثلاث الأخرى، بحيث أنّ الرذائل تتغلّب على القوة العقلية، فالنفس هنا تُسمّى بـ”النفس اللوّامة”، لأنّ النفس تشعر بالندم والأسف لما تفعله من المنكرات والقبائح التي تخالف السيرة الصحيحة للإنسان المنساق وراء رغائبه ولذائذه.
وأمّا إذا صارت القوة العقلية مغلوبة ومقهورة للقوى الثلاث الأخرى، فيقال للنفس ساعتئذٍ “النفس الأمّارة بالسوء” لأنّ القوة العقلية عندها تصبح مغلوبة على أمرها وعاجزة عن ضبط حركة القوى الثلاث الأخرى.
ولذا يقول الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ 2.
بعد هذا العرض للنفس وقواها الأربع، فقد قال علماء الأخلاق والنفس في الإسلام بأنّ “العصبية” هي نابعة من “القوة الغضبية والسبعية”، لأنّ “العصبية” غالباً ما ينتج عنها الأذيّة للآخرين بالقول أو بالفعل حسب اختلاف الموارد وفي واقع الحياة ووفق نوع التعصّب وحجم الرد على الناس من غير وجه حقّ شرعي.

ثالثاً: أنواع العصبية

لقد ذكر علماء الأخلاق نوعين من “العصبية” فهناك نوعٌ “ممدوح” وهناك نوعٌ “مذموم”، فالنوع الممدوح هو نوع العصبية التي يسعى فيها المتعصّب إلى حماية نفسه أو ماله إليه نسبة من القرابة أو العشيرة أو الدين أو الوطنية وما شابه بالقول أو بالفعل، وكانت الحماية بالحقّ من دون الخروج من حالة الإنصاف ومن دون الوقوع في المحاذير والمحرّمات الشرعية، فهذه “العصبيّة” هي من نوع “الغيرة” الممدوحة والتي هي من فضائل قوّة “الغضب”.
وأمّا إذا كان السعي في الحماية للمذكورين وما شابههم نابعاً عن غير حقّ، كما لو كان المدافع ممّا لا ينبغي حمايته، أو كانت حمايته من النوع الباطل أو المحرّم بحيث تكون الحماية مؤدية بالمتعصّب إلى الخروج عن الحقّ وعن حالة الإنصاف وأدّت إلى ارتكاب المحرّم قولاً أو فعلاً، فهذه هي “العصبية المذمومة” والتي هي من رذائل قوّة الغضب المنفلتة من سيطرة القوّة العقلية الملكية. وهذه “العصبية” هي التي ورد النهي عنها في القرآن والسنة كما سنبيّن ذلك من خلال الآيات والروايات الواردة عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة( عليهم السلام).

رابعاً: العصبيّة في القرآن والسنة

1ـ العصبية في القرآن: ورد في القرآن العديد من الآيات التي تتحدّث عن “العصبية” ونورد منها ما يلي وفق ما يتلاءم مع إيصال الفكرة المطلوبة.
أ ـ قوله تعالى عن إبليس عندما قارن بين نفسه وبين آدم عليه السلام حيث قال: ﴿ … أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ 3، فاستعمل القياس للوصول إلى النتيجة التي جعلته يرفض أمر الله بالسجود لآدم( عليه السلام)، حيث اعتبر أنّ النار أفضل من الطين، لأنّ النار موجود علوي شريف، والطين موجود أرضي كثيف، وهذا هو نوعٌ من الإستعلاء والتكبّر الناتج عن “الحمية والتعصّب”، وبهذا الفعل استحقّ إبليس غضب الله الأبدي، واكتشف الملائكة أنّ “إبليس” لم يكن منهم وإنّما هو من الجن.
ب ـ قوله تعالى حكاية عن مشركي الجاهلية من جبابرة قريش ومستكبريها: ﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ … ﴾ 4، والمعنى أنّ الرافضين لدعوة النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) للدخول في الإسلام، كان سبب رفضهم هو تعصّبهم لآلهتهم التي كانوا يعبدونها، وهذا التعصّب المذموم هو الذي منعهم من الإيمان بالإسلام ونبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم).
ج ـ قوله تعالى بحقّ العلماء الذين يعرفون الحقائق التي كان يجب عليهم تعليمها للناس ليهتدوا إلى الحقّ ثمّ يفعلون خلاف ذلك ممّا يؤدّي إلى ضياع الناس وانحرافهم عن الصراط المستقيم: ﴿ … بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ 5 حيث أنّ العلماء الذين عرفوا الحقائق يعملون على التعامي عنها، والإصرار على ما هم عليه من الأفكار الضالّة أو الباطلة أو المنحرفة تعصّباً لها وتمسّكاً بها من دون وجه حقّ، والعصبية في هذا المورد خيانة للعلم والناس وللأمانة الإلهية التي كان ينبغي أن يؤدّوها بصدق وإخلاص حتّى لا تضلّ الناس وتضيع، وقد شدّد الله على نبذ العصبية في هذا الشأن في الكثير من الآيات المشابهة لهذه الآية في معناها ومضمونها.
2 ـ العصبية في السنة الشريفة: وقد ورد في السنة الشريفة العديد من الروايات التي تذمّ العصبية في جوانبها السلبيّة كما هو الغالب في موارد “التعصّب”، ومن تلك الروايات نختار جملة منها تتناسب مع مقامنا.

  • الرواية الأولى: “سلب الإيمان”: (من تعصّب أو تُعُصّب له فقد خلع ربق الإيمان من عنقه)، “الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).
  • الرواية الثانية: “الحشر مع أهل الجاهلية”: (من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية)، الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم).
  • الرواية الثالثة: “إبليس إمام المتعصّبين”: (في ذم إبليس… فافتخر على آدم بخلقه، وتعصّب عليه لأصله، فعدوّ الله إمام المتعصّبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبرية، وادّرع لباس التعزّز، وخلع قناع التذلّل)، أمير المؤمنين( عليه السلام).
  • الرواية الرابعة: “سلب الإسلام”: (ليس منّا من دعا إلى عصبية، وليس منّا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)، الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم).
  • الرواية الخامسة: “العذاب يوم القيامة”: (إنّ الله سبحانه يعذّب طوائف ست بأمور ستة، أهل البوادي بالعصبية، وأهل القرى بالكبر، والأمراء بالظلم، والفقهاء بالحسد، والتجار بالخيانة، وأهل الرساتيق بالخجل)، أمير المؤمنين( عليه السلام).
  • الرواية السادسة: “ارتكاب الإثم والعقاب”: (سُئِل علي بن الحسين عليهما السلام عن العصبية؟ فقال: العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم) و(يا رسول الله: ما العصبية؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أن تعين مؤمّل على الظلم)،الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي مقابل التعصّب المذموم، هناك نوع ممدوح من التعصّب، وهو الذي يُعتبر نوعاً من الغيرة المحمودة والممدوحة لأنّها تهدف إلى الخير ونزع الشر والإصلاح بين الناس أو الدفاع عنهم بالحقّ والعدل والإنصاف، وقد ورد العديد من الروايات التي تشير إلى ذلك ونوضحه للتمييز بين هذا النوع من التعصّب الممدوح والتعصّب المذموم، ومن الروايات الواردة في ذكر “التعصّب الممدوح” نذكر ما يلي:

  • الرواية الأولى: “التعصّب لخصال الحمد والخير”: (…فإن كان لا بدّ من العصبية فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور، التي تفاضلت بها المجداء والنجداء من بيوتات العرب، ويعاسيب القبائل، بالأخلاق الرغيبة والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة، فتعصّبوا لحلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكفّ عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض)، أمير المؤمنين( عليه السلام).
  • الرواية الثانية: “التعصّب لنصرة الحق وإغاثة الملهوف: (إن كنتم لا محالة متعصّبين فتعصّبوا لنصرة الحق وإغاثة الملهوف)،أمير المؤمنين( عليه السلام).
  • الرواية الثالثة: “الإستنهاض للدفاع عن الإسلام”: (من كلام لأمير المؤمنين( عليه السلام) وهو يستنهض الناس لنصرته: (ما تنتظرون بنصركم ربّكم؟ أما دين يجمعكم، ولا حمية تحمشكم؟).

و(أمّا دين يجمعكم، ولا حمية تستحذكم! أوليس عجباً أنّ معاوية يدعو الجفاة الطعام فيشبعونه على غير معونة ولا عطاء…؟).

خامساً: مفاسد العصبية

ممّا لا شكّ فيه أنّ الله عزّ وجلّ خلق الإنسان وجعل فيه قابلية فعل الخير وكذلك القدرة على فعل الشر كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ 6، وكذلك قوله تعالى:﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ 7.
والإنسان إذا أهمل تربية نفسه وتهذيبها فإنّه يصبح أقرب إلى فعل الشر منه إلى فعل الخير، ومن هنا فإنّ “العصبية” إذا لم يصنع لها الإنسان حدوداً في نفسه من خلال لجمها وزجرها فإنّها تورد الإنسان المهالك وتورثه الحسرة والندامة والعذاب في الآخرة.
وفيما يلي سوف نستعرض جملة من مفاسد داء “العصبية” وآثارها الضارّة على كلّ من الفرد والمجتمع.
1ـ الإعتداء على الناس: لأنّ المتعصّب هو الذي كما قلنا ينحاز إلى من له علاقة بهم ليحامي عنهم من دون وجه حقّ، وهذا يؤدّي به إلى أن يعتدي على الناس، سواء بالقتل أو الضرب والإيذاء أو الجرح أو إتلاف الممتلكات أو الإعتداء على الأعراض وما شابه ذلك، ولا شكّ أنّ هذا الفعل قبيح لأنّ فيه تجاوزاً لحقوق الناس وإهداراً لكراماتهم وعزّة نفوسهم، مُضافاً إلى ما قد ينتج عن مثل هذا الإعتداء من هرجٍ ومرج بين الناس ينغّص عليهم حياتهم، ويجعل من حياة الناس حياةً أقرب إلى الحيوانية والبهيمية منها إلى الحياة الإنسانية السعيدة كما أراد الله عزّ وجلّ.
وهذا الإعتداء لا يقتصر على المتعصّبين من الأفراد، بل قد يشمل الدول أيضاً التي ترى نفسها أقوى من غيرها فتمارس “العصبية” ضدّ الدول الضعيفة لحماية مواطنيها أو عملائها المرتبطين بها ضدّ شعوبهم وأوطانهم مستخدمةً القوّة المجرّدة عن العقل الموجّه لها لتمارس الطغيان والظلم سواء أكان ذلك عن حقّ أو عن باطل كما هو الحال دائماً كما نرى في عالمنا المعاصر، أو كما كان الأمر في العصور السابقة التي دفعت ثمناً كبيراً بسبب هذه “العصبية” العمياء.
2ـ تضييع الحقوق: وهذا من أكبر الآفات والإنحرافات الناتجة عن “العصبية”، لأنّ المتعصّب فرداً كان أو دولة عندما يمارس الإعتداء على الآخرين، فهو يتوّهم أنّه على حقّ فيما يفعل أو يقول، وهذا يعني أنّه لا يرى الآخرين ممّن يعتدي عليهم أنّهم أصحاب حقّ يجب الحفاظ عليه، ويبرز هذا المعنى واضحاً عند الدول الطاغية المستكبرة التي تأكل ثروات وحقوق الشعوب المستضعفة وهي ترى أنّ لها الحق في ذلك متجاوزة حرية الشعوب في التصرّف بأرزاقها ومواردها وثرواتها، وكم تعاني البشرية اليوم كما عانت سابقاً من ويلات مثل هذه “العصبية” التي تحرم الفرد والشعب المظلومين من حقوقهم أمام الأقوياء المتعصّبين بقوّتهم وبأسهم، ولذا يقول الشاعر في التعبير عن هذا المعنى من الإعتداء وتضييع الحقوق:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلم
3ـ إيقاع الفتن: وهذا من المفاسد المهلكة للعصبية المذمومة والمستقبحة، لأنّ المتعصّب عندما يرى الناس مجتمعة ومتآلفة ولن يستطيع اختراق صفوفها من أجل الوصول إلى أهدافه الخبيثة فإنّه يسعى للفتنة بين الناس من أجل تفريق صفوفهم وتضييع وحدتهم حتّى يسهل عليه أمر سيطرته عليهم والتمكّن منهم، وهذا الأسلوب الشيطاني “فرّق تسد” يستعمله الأقوياء المتعصّبون لإضعاف الجماعات المتماسكة أو المتقاربة أو لإيجاد الشروخ بين أفراد الشعوب أو بين شعبٍ وشعب إرواءً لظمأ “العصبية” العدوانية الموجودة لديهم، ولقد قال القرآن عن “الفتنة” وصفاً مرعباً حيث جاء قوله تعالى: ﴿ … وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ … ﴾ 8، لأنّ الفتنة قد ينتج عنها دمار الجماعات والشعوب ممّا يُسهّل على الأقوياء المتعصّبين سبل السيطرة والسطوة والغلبة على من وقعوا في الفتنة.
4ـ تدمير القيم الإنسانية: لأنّ المتعصّب كما قلنا هو الذي لا يقف عند حدٍّ شرعي أو ديني أو أخلاقي، وهذا يعني أنّ المتعصّب لا يرى الأمور على حقيقتها الواقعية كما أراد الله، لأنّ نفسه قد غلبت عليها القوى الثلاث من الغضبية إلى الشهوية والشيطانية، والنفس إذا سيطرت عليها هذه القوى خرجت عن الطاعة لله إلى حيث الفساد والإنحراف والضلال والغرور والتكبّر، وفي هذا كلّه تدمير للقيم الإيمانية الإلهية، وللقيم الإنسانية الرائعة التي بها يمتاز الإنسان عن غيره من الموجودات في الكون.
ولذا نرى أنّ أهل العصبية ـ أفراداً وشعوباً ـ لا يقيمون وزناً للمبادئ والقيم ولا يدافعون عنها ولا يعملون على إشاعتها بين الناس، بل ونفوسهم جامحة للمتعصّبين المستكبرين من السيطرة على البشر من خلال إفساد حياتهم بالفسق والفجور والإنحراف عن جادة الحقّ والحقيقة والحياة الإنسانية الشريفة والمستقيمة كما أراد الله سبحانه.
ونحن كمسلمين لم تسلم أمتنا من أهل العصبية هؤلاء الذين تمكّنوا بدهائهم ومكرهم التسلّط على رقاب أبناء الأمّة الإسلامية وعملوا على تدمير الإسلام المحمدي الأصيل وكان لهم ما أرادوا، فحوّلوا الإسلام إلى مجرّد عبادات فارغة من المضمون والمحتوى حتّى وصل الأمر بالمسلمين الفارغين من المحتوى الإيماني والعقائدي لأن يرتكبوا أفظع الجرائم وأكثرها كرهاً عند الله كجريمة قتل الإمام الحسين( عليه السلام) وهدم الكعبة بالمنجنيق وغير ذلك الكثير من الموبقات والجرائم البشعة التي ستبقى وصمة عار في جبين أولئك المتعصّبين الذين دمّروا الإسلام وقيمه ومبادءه للوصول إلى أغراضهم وأهدافهم الدنيئة الدنيوية.
هذه هي أهم وأكثر مفاسد “العصبية والتعصّب” الشاملة تقريباً لكلّ مفردات السلوك المنحرف الذي يمارسه المتعصّبون الذين لا يرون الحياة إلاّ وسيلةً للإستعلاء والإستكبار والهيمنة على الأفراد والشعوب ومقدّراتهم مستعملين في ذلك كلّ وسائل القوّة والضغط لإبقاء الناس تحت سيطرتهم وإدارتهم كما يريدون من دون السماح لهؤلاء المسحوقين بالتعبير عن آرائهم المستقلّة وحقّهم في العيش بعزّة وكرامة وإباء.

سادساً: علاج العصبية

ممّا لا شكّ فيه وكما تبيّن من الكلام حتّى الآن أنّ “العصبية والتعصّب” حالة منحرفة عن المزاج الإنساني المستقيم، والحالة المنحرفة هي هنا عبارة عن “مرض في النفس البشرية”، وهذا المرض يحتاج إلى العلاج، لأنّ عدم العلاج يؤدّي إلى استفحال المرض، واستفحاله هنا لا أثر له إلاّ زيادة في الإنحراف والإبتعاد عن جادة الحقّ والصواب، وإمعاناً في السير في خطّ الفساد والعبث في الأرض بأرواح العباد وخيرات البلاد.
ومن أجل الخلاص من “العصبية” وآثارها المدمّرة لا بدّ من سلوك سبيل العلاج الناجح القادر على اقتلاع “العصبية” أو المتمكّن من “لجمها” حتّى لا تبقى في حالة الهيجان والثورة المدمّرة للحياة الإنسانية، وسُبل العلاج يمكن تحديدها كما يلي:
ـ العلاج الأول ـ تذكّر العقاب الإلهي للتعصّب: لأنّ هذا التذكّر لله ولعقابه الذي أعدّه للمتعصّبين قد يكون رادعاً عن الإنحراف بالإعتداء على الآخرين وتضييع حقوقهم وإيقاع الفتن بهم.
ولا شكّ أنّ العقاب الإلهي لا يستطيع أيّ كائنٍ أن يتحمّله ولو كان من الجبال الراسيات، فكيف بالإنسان المخلوق الضعيف العاجز عن مقاومة النار التي يشعلها لأغراضه، فهل يستطيع أن يتحمّل العذاب بالنار التي سجّرها الجبار للعصاة المذنبين من عباده، وخاصة العباد الذين يظلمون الناس من دون حقّ لهم بذلك؟
إنّ هذا التذكّر الدائم والمستمر من أنواع العلاج النافع وهذا ما ورد في مضامين العديد من الأحاديث الشريفة بأنّه إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكّر قدرة الله عليك بالعقاب والعذاب والإلقاء في النار وبئس القرار، فإذا أراد أن يعتدي على إنسانٍ بغير وجه حقّ فالتذكّر سيردعه عن ذلك، وإذا أراد أكل حقّ إنسان فتذكّر العقاب يجعله يدرك أنّ الله قادر على أخذ الحقّ منه يوم القيامة وردّه لصاحبه، وعندما يريد إيقاع الفتنة بين الناس فتذكّر العقاب يساعد الإنسان على الخلاص من هذه الأزمة الشيطانية الخبيثة.
ـ العلاج الثاني ـ الإنصاف: كما في قوله تعالى:﴿ … وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ … ﴾ 9.
والمعنى المراد من الآية هو أنّ “العصبي” أو “ذا العصبية” عليه تعويد نفسه على إعطاء الحقّ للآخرين إذا كان قادراً على ذلك ومتمكّناً، وأن لا يلتفت إلى الوساوس الشيطانية وأن لا يستمع إلى ضعاف النفوس من المنحرفين المتعصّبين، بل أن يقف مع الحقّ، وليعلم أنّه مُطالبٌ يوم القيامة بذلك كما قال تعالى:﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ﴾ 10.
وعندما يتعوّد الإنسان على الإنصياع للحقّ والإنصاف وإعطاء الحقّ لأهله، فهذا يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى أن يصبح سجيّةً عنده وملكة نفسانية لديه تعينه على الوقوف عند حدّه الشرعي فلا يتجاوز حقوق الآخرين.
بل على المبتلى بمرض “العصبية” أن يسعى ليس فقط لعدم استعمال العصبية، بل مدعوُّ للدفاع عن الآخرين كما ورد في الحديث الشريف: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقيل: عرفنا كيف ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: يردعه عن الظلم).
ويرجع “العصبي والمتعصّب” إلى ما ورد في السنة الشريفة من الأحاديث الدالّة على أهمية إنصاف الإنسان الناس من نفسه كما قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (سيد الأعمال إنصاف الناس من نفسك)، وعنه ( عليه السلام) أيضاً: (ألا إنّه من يُنصِف من نفسه لم يزده الله إلاّ عزاً)، وعنه ( عليه السلام) أيضاً: (من أنصف الناس من نفسه رضى به حكماً لغيره)، وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (من واسى الفقير من ماله وأنصف الناس من نفسه، فذلك المؤمن حقاً).
ـ العلاج الثالث ـ الإستقامة: قال الله تعالى مخاطباً نبيه الأعظم محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ … ﴾ 11، هذه الآية التي وردت في سورة “هود” التي قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عنها: (شيّبتني سورة هود).
ولا شكّ أنّ الإستقامة مع الله في الحياة الدنيا تحتاج إلى إيمانٍ عميق وارتباط بالله قوي جداً، وأنّ الخوف والخشية من الله تمنع الإنسان من الإنسياق إلى ترتيب آثار “العصبية المذمومة”.
والذي يؤدّي إلى حصول الإستقامة هو الإلتزام بحلال الله وحرامه، وفعل الواجبات، وتعويد النفس على حبّ الخير وفعله والإحسان إلى الفقراء والمستضعفين من عباد الله، والسعي في توفير احتياجاتهم وتأمين ما يلزم لحياتهم ولو بالحد الأدنى.
ومن الأمور التي تعين على الإستقامة أيضاً “التجاوز عن إساءات الآخرين طالما أنّها لا تتعرّض لعزّة الإنسان وكرامة دينه” عبر تطبيق قوله تعالى: ﴿ … ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ 12.
والتغاضي عن الردّ على الإساءة بالإساءة هو خُلُقٌ كريم ومن الصفات المحمودة والممدوحة عند الله عزّ وجلّ، وقد كان أئمتنا( عليهم السلام) من أبرز مصاديق هذه الآية الكريمة، حيث كانوا يطبّقونها في طريقة تعاطيهم وتعاملهم مع إساءات الناس الجاهلين غير الواعين، ويحوّلونهم من خلال ذلك إلى مؤيّدين لهم وأتباع وأنصار، وكانوا يمتثلون كذلك لقوله تعالى: ﴿ … الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ 13.
بعد هذا كلّه نسأل الله العلي القدير أن يساعدنا على التخلّص من “العصبية البغيضة والتعصّب المذموم”، وأن يجعلنا من أهل الغيرة والحميّة على ديننا وعزّتنا وكرامتنا، فنكون من المستعملين للعصبية في موارد المدح والفخر، لا في مواضع التكبّر والظلم.
والحمد لله ربّ العالمين14.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى