الجهاد و الشهادة

فتح مكة

فتح مكة

بعد مرور حوالي السنتين على صلح الحديبية أقدمت قريش على نقضه وذلك عندما انضمت إلى حلفائها من قبيلة كنانة التي أقدمت على مهاجمة خزاعة حليفة المسلمين مخالفةً بذلك الهدنة القائمة بين الطرفين بموجب الصلح، فاستنصرت خزاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وشعرت قريش بخطورة المجازفة التي أقدمت عليها فأوفدت أبا سفيان إلى المدينة، ليؤكد العهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليتفادى نتائج الأحداث، إلاَّ أن محاولاته في المدينة لم تجدِ نفعاً بعدما رفض النبي مقابلته لنقضه العهد.

قرر النبي صلى الله عليه وآله وسلم التوجه إلى مكة لمواجهة قريش، فاستنفر أصحابه وجهز جيشاً من عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين والأنصار وغيرهم من القبائل.
وقرر أن يتحرك سراً ليباغت قريشاً، وليصادر إمكانية الدفاع من يدها، ولئلا يقع قتال في مكة، فدعا ربه قائلاً صلى الله عليه وآله وسلم:” اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها”. 

اكتشف حاطب بن بلتعة، وكان من المسلمين، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد مكة، فكتب إلى قريش بذلك وأعطى الكتاب إلى امرأة، فوضعته في شعرها وتوجهت إلى مكة، فعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا العمل الجاسوسي الخطير، وبعث علياً عليه السلام والزبير بن العوام ليقبضا عليها، فأدركاها في منطقة ذي الحليفة، وانتزع منها علي عليه السلام الكتاب بالتهديد والقوة وأرجعاها إلى المدينة.

ويقول المؤرخون: إن الله أنزل بهذه المناسبة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ. ..﴾1
تحرّك جيش المسلمين في العاشر من شهر رمضان المبارك سنة ثمان للهجرة سراً، حتى وصل إلى مشارف مكة وطوَّقها.

استخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحرب النفسية في هذه الغزوة، فأشعل النيران على الجبال على مقربة من مكة، ليشعر قريشاً بقوة وكثرة الجيش ويثير الرعب في قلوب الطغاة، ويحملهم على الاستسلام والخضوع من غير قتال.

خرج أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء ليتجسسوا الأخبار ففوجئوا بالنيران تطوق مكة، وفي هذه الأثناء التقى العباس بن عبد المطلب بأبي سفيان في الطريق خارج مكة فأشار عليه أن يذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد أن أخذ له الأمان رتَّب له لقاءً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحصل اللقاء صبيحة اليوم التالي، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلاَّ الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره، لقد أغنى عني شيئاً، بعد.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً.

تدخل العباس لإنقاذ أبي سفيان فخاطبه قائلاً له: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، فشهد بذلك، وفي نفسه من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشياء وأشياء وظلت تلك الأشياء إلى أن مات.

وقد حاول العباس أن يتعامل مع التركيب النفسي لشخصية أبي سفيان ويوجه موقعه الاجتماعي لصالح الفتح المبين فقال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” يا رسول الله إنه يحب الفخر، فاجعل له شيئاً يكون في قومه “.

فأمر صلى الله عليه وآله وسلم من ينادي في الناس: ” من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق عليه بابه فهو آمن “.

بعد أن أعطاه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذه الميزة إرضاءً لخصلة الفخر في نفسه، أخذه العباس إلى المكان الذي عيَّنه له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليرى جنود الله وهي تمرّ أمامه في استعراض عسكري لإظهار القوة لم تعهد له مكة نظيراً من قبل.
   
ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة بتلك الحشود التي تنساب خلفه فاتحاً من غير قتال، فلما انتهى إلى الكعبة تقدم على راحلته فاستلم الركن وكبَّر، فكبَّر المسلمون لتكبيره، ثم طاف بالبيت، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً وكان هبل أعظمها، فقال لأمير المؤمنين‏ عليه السلام: أعطني يا علي كفّاً من الحصى، فقبض له أمير المؤمنين عليه السلام كفّاً فناوله، فرماها به وهو يقول: ﴿ وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾ فما بقي منها صنم إلا خرَّ لوجهه، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد فطرحت وكسُرت، ثم أمر أن تفتح الكعبة ففتحت له ودخلها فصلى فيها وأزال كل ما كان فيها من تماثيل وصور ثم أشرف من بابها على الناس وقال صلى الله عليه وآله وسلم: “الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إنّ كل مأثرة أو دمٍ أو رباً في الجاهلية فهو تحت قدمي هاتين، إلاَّ سدانة الكعبة وسقاية الحج”، ثم توجه إلى المكيين وسألهم: ماذا ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخ كريم. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ” إني أقول لكم ما قال أخي يوسف لأخوته، لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء “.

وبذلك ضرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للأجيال في كل عصر وزمان مثلاً في الرحمة والعفو والترفع عن الحقد والانتقام.

ولعل أهم السمات التي برزت في غزوة الفتح هي الآتية:

الإعداد الجيد للمعركة:
فقد بلغ عدد جيش الفتح عشرة آلاف مقاتل، مجهزين أحسن تجهيز.

المحافظة على السرية التامة:

فقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالإعداد للحرب، ولكنه لم يعلن عن وجهته، حتى للمقربين إليه، وعندما اضطر قبيل التحرك للإعلان عن وجهته لبعض أصحابه أمرهم بأن يكتموا الأمر، كي يستطيع تحقيق المفاجأة للعدو. كما اتخذ عدة إجراءات في المدينة تمنع من تسرب المعلومات إلى العدو وقد تمكن جيش المسلمين، نتيجة التشدد في المحافظة على السرية التامة، من مباغتة المشركين، والظهور فجأة على مقربة من مكة بقوات كبيرة لا قبل لقريش وحلفائها بمواجهتها.

استخدام الحرب النفسية:

فقد تعمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم نشر المسلمين على بقعة كبيرة من الأرض على مشارف مكة فأشعلوا نيرانهم ليلاً ليرى العدو كثرتهم.

حكمة التصرف بعد النصر والتواضع:

فلم يبدر من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد دخوله مكة أي تصرف يمكن أن يثير المنهزمين، فهو فاتح حكيم، وهو يعود إلى بلده وأهله، لا يحمل غلاً ولا حقداً، ولا يجد في انتصاره وسيلة للتكبر أو التجبر، ويعبر عن سروره بالفتح بتواضع جمّ.

واستطاع في موقف إنساني نبيل أن يستميل أهل مكة، وهم الذين وقفوا ينتظرون حسابهم، فإذا به صلى الله عليه وآله وسلم يعفو عنهم ويقول لهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء “.

* دروس من سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، إعداد جمعية المعارف الإسلامية، ط3، بيروت/لبنان، 2007م/1426هـ، ص 93-96.


1-الممتحنة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى