(حيدر الجراح)
من موقف الأقوياء والمقتدرين، كان صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة، ولم تكن مسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكّة في تلك السنة لغرض الحرب وإعمال السيف في رقاب المشركين، بقدر ما كانت دعوة إلهية لبّاها رسول الله لضيافة ربّه في البيت المعمور.. ولكنّه آثر الرجوع إلى المدينة بعد أن عقد صلحه المشهور مع مشركي مكّة، حقناً لدماء أصحابه ودماء قومه، ويعود بأصحابه إلى حيث خرج، ولتكون حجة بالغة عليهم، لتأتي ثمارها في فتح مكّة الميمون دون إراقة دماء.
ذلك النصر الباهر، الذي أحرق حشاشة المشركين في ذلك الوقت، وانكفأ إلى داخل النفوس يستعر حقداً وحسداً على تلك الإنتصارات التي حققها هذا الدين. تلك الأحقاد أخذت سباتها الطويل نسبياً في نسيج شريحة كبيرة من المجتمع الإسلامي آنذاك، لتخرج إلى العلن مرة أخرى برداء إسلامي في حادثة التحكيم الشهيرة في موقعة صفين التي أدار رحى حربها أمير المؤمنين (عليه السلام).
المجتمع الإسلامي هو نفسه، وإن طاله تغيير طفيف، مشركوا مكّة والمنافقون في صلح الحديبية، ومسلمو صفين، الأسم دون المعنى، في غالبيتهم، وقلّة آثرت خط الإمام الرافض لمهزلة التحكيم.
وظهرت تداعيات هذا التحكيم، وانقسم جيش الكوفة إلى صفّين: صفّ يدعو إلى القتال ونقض العهود التي دافعوا عن إبرامها، بعد أن يعلن الإمام عن توبته لأنّه كفر على حد زعمهم، وصفّ يدعو للسلم والرجوع إلى الكوفة وكان ما كان من فتنة الخوارج، وإبادة عديدهم دون فكرهم في معركة النهروان.
وتتأكد اكثر تداعيات هذا التحكيم حين تثاقل أهل الكوفة وتخاذلوا عن تلبية نداء الإمام دفاعاً عن مواقعهم التي يغير عليها جند معاوية ويستبيح المال والبشر.
يقول (عليه السلام) مخاطباً جيشه:
((أحمد الله على ما قضى من امر، وقدّر من فعل، أيتها الفرقة التي إذا أمرت لم تطع، وإذا دعوت لم تجب، إن أهملتم خضتم، وإن حوربتم خرتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجئتم إلى مشاقة نكصتم، لا أبا لغيركم، ما تنتظرون بنصركم والجهاد على حقكم.. الموت أو الذل لكم، فوالله لئن جاء يومي وليأتيني ليفرقنّ بيني وبينكم، وأنا لصحبتكم قالٍ، وبكم غير كثير..
لله أنتم: أما دين يجمعكم، ولا حمية تشحذكم، أو ليس عجباً، أنّ معاوية يدعو الجفاة الطغام، فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء، وأنا أدعوكم، وأنتم تريكة الإسلام وبقية الناس، إلى المعونة أو طائفة من العطاء فتتفرقون عني وتختلفون عليّ)).
التركة الثقيلة
بعد مقتل أميرالمؤمنين (عليه السلام) ومبايعة الإمام الحسن (عليه السلام) بالخلافة، ورث تلك التركة الثقيلة المتمثلة بهذا الخليط العجيب – من المقاتلة – الذي تجمعت فيه عدة اتجاهات متعاكسة وعناصر متضادة يمكن تصنيفها إلى فئات:
1) الخوارج: وهم الخارجون على طاعة الإمام علي (عليه السلام) والذين حاربوه وناوئوه ونصبوا له العداوة، وقد وجدوا في الإمام الحسن (عليه السلام) حلاً وسطاً لمحاربة معاوية، وهذه الفئة تستثيرها أدنى شبهة عارضة فتتعجل الحكم عليها.
2) الفئة الممالئة للحكم الأموي، وهي على قسمين:
الذين لم يجدوا في حكومة الكوفة ما يشبع نهمهم ويروي من ظمأهم فيما يحلمون به من مطامع، فأضمروا ولاءهم للشام مترقبين سنوح الفرصة للوثوب على الحكم، وتسليم الأمر لمعاوية.
وهم الذين حقدوا على حكومة الكوفة لضغائن في نفوسهم أورثتها العهود السالفة، أو حسابات شخصية.
3) الفئة المترجّحة التي ليس لها مسلك معين، أو مهمة خاصّة مستقلة، وإنّما هدفها ضمان السلامة، وبعض المطامع عند الجهة التي ينعقد لها النصر.. فهي تترقب عن كثب إلى أيّ جهة يميل ميزان القوة لتميل معه.
4) الفئة الغوغائية، وهي الفئة التي لا تستند في موقفها إلى أساس، بل هم اتباع كلّ ناعق يميلون مع كلّ ريح.
5) الفئة المؤمنة المخلصة، وهي القلّةالخيّرة، التي يذوب صوتها في زحام الأصوات الأخرى المعاكسة لها..
كيف نظر الإمام الحسن (عليه السلام) إلى تلك الخارطة البشرية المتناقضة؟
ذكر ابن طاووس في كتابه (الملاحم والفتن) كلاماً للإمام الحسن (عليه السلام) يعبّر عن ضعف ثقته بجيشه، وكان من ابلغ ما افضى به في هذا الصدد، وذلك في خطابه الذي خاطب به جيشه في المدائن، قال فيه:
((وكنتم في مسيركم إلى صفّين، ودينكم أمام دنياكم، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، وأنتم بين قتيلين: قتيل بصفّين تبكون عليه، وقتيل بالنهروان تطلبون منّا بثأره، وأمّا الباقي فخاذل، وأمّا الباكي فثائر)).
ممهدات الصلح:
أمام هذا الخليط العجيب والمتنافر، لم يقف معاوية مكتوف اليدين – وكان قد عرف نقاط الضعف التي ابتلي بها جيش الإمام الحسن(عليه السلام) – فبدأت دسائسه تنطلق شاقّة طريقها إلى معسكر الإمام (عليه السلام) في (مسكن) حيث بدأت تظهر بوادر الفتنة بوضوح، وقد وجدت تلك الدسائس مجالاً خصباً بوجود المنافقين، ومن يؤثرون العافية، وكانت الشائعة (إنّ الحسن يكاتب معاوية على الصلح فلم تقتلون أنفسكم).
ذكر الصدوق في العلل:
إنّ معاوية دسّ إلى عمرو بن حريث، والأشعث بن قيس وحجار بن أبجر، وشبث بن ربعي، دسيساً أفرد كل واحد منهم بعين من عيونه، إنّك اذاقتلت الحسن فلك مائة ألف درهم، وجنّد من اجناد الشام وبنت من بناتي، فبلغ الحسن (عليه السلام) ذلك.
ويستسلم عبيد الله بن عباس قائد جيش الحسن لعدوه معاوية، جارّاً معه عدداً كبيراً من الزعماء والقواد والجند، وقد بلغ عدد الفارّين والمستسلمين ثمانية آلاف من أصل جيش تعداده عشرون الفاً، مقابل ستين الفاً هو جيش الشام.
ويقف الإمام الحسن (عليه السلام) أمام هذه النكبات والمحن المتتالية، متطامناً على نفسه، ناظراً في أمره، وإلى أين ستنتهي به هذه المسيرة.
وجاء وفد الشام المؤلف من المغيرة بن شعبة، وعبد الله بن كريز، وعبد الرحمن بن الحكم، وهو يحمل كتب أهل العراق ليطلع الحسن عليها، وليعرف ما انطوت عليه دخيلة أصحابه ممن أضمروا السوء، وتطوعوا في صفوف جيشه لإذكاء نار الفتنة، عندما يحين موعدها المرتقب.
وعرض الصلح على الإمام بالشروط التي يراها مناسبة، ولكنّ الإمام لم يشأ أن يعطيهم من نفسه ما يرضي به طموح معاوية، وكان دقيقاً في جوابه، بحيث لم يشعرهم بقبول الصلح أو ما يشير إلى ذلك، ولم يحدد الإمام لنفسه موقفاً معيناً قبل أن يختبر جنده، ليتأكد له إلى أيّ مدى سيصمد معه جيشه في لحظات العنف، ولينكشف له صريحاً واقع جيشه المكفهّر الغامض.. فخرج وخطب الناس خطبة قال فيها: ((ألا إنّ معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه، وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبا السيوف، وإن أردتم الحياة قبلنا، وأخذنا لكم الرضا)).
وبعث معاوية بالسجلّ المختوم للإمام الحسن (عليه السلام) ليشترط فيه ما يشاء لنفسه، وأهل بيته وشيعته، وكتب الإمام الشروط، وأخذ من معاوية العهد والميثاق على الوفاء، واعطاه معاوية ما أراد مبطنا في داخله الحنث والنكول.
بنود الصلح:
كانت نصوص الصلح هي:
1) تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وبسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبسيرة الخلفاء الصالحين.
2) أن يكون الأمر للحسن من بعده، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين، وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد.
3) أن يترك سبّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكر علياً إلاّ بخير.
4) إستثناء ما في بيت مال الكوفة، وهو خمسة آلاف ألف، فلا يشمله تسليم الأمر، وعلى معاوية أن يحمل إلى الحسين ألفي ألف درهم، وأن يفضّل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس، وأن يفرّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل، وأولاد من قتل معه بصفين ألف ألف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجر.
5) على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من ارض الله، في شامهم، وعراقهم، وحجازهم، ويمنهم، وأن يؤمن الأسود والاحمر، وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع احداً بما مضى، ولا يأخذ أهل العراق بإحنّة، وعلى أمان أصحاب علي حيث كانوا، وأن لا ينال احداً من شيعة علي بمكروه، وأن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وأن لا يتعقب عليهم شيئاً ولا يتعرض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كل ذي حقّ حقه، وعلى ما اصاب أصحاب علي حيث كانوا.
وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول الله غائلة، سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق.
هذه هي المواد الخمس التي تمّ الاتفاق عليها بين الطرفين، ولا أقلّ من أنّها تمثّل لنا طبيعة الشروط التي أملاها الحسن على معاوية.
قراءة بعيون معاصرة:
بالعودة إلى بنود الصلح، سنحاول تفكيك ما ورد في كل بند، من كلمات ومعانيها ليتسنى لنا إخراج مظاهر اللاعنف في تلك البنود.
في البند الأول، ترد كلمة تسليم، والتي هي في جذرها – سلم – ومنها السلم والسلام.
ولا تتمّ عملية تسليم شيء ما إلاّ بصورة ودية هادئة تحمل كل معاني السلم والسلام بين إثنين أو أكثر.
وشرط التسليم هو العمل بكتاب الله، الذي لا تجد فيه إلاّ دعوات المحبة والوئام، والتسامح ونبذ القطيعة والقتال والعنف، وكذلك سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فالتسليم لا يتمّ إذن إلاّ على وفق المبدأ القرآني الثابت، الذي لا يتغير بتغير الظروف والأحوال، وهو مبدأ احترام الإنسان لإنسانية الآخرين وعدم تهديدها أياً كان شكل هذا التهديد، بالقول أو الفعل.
في البند الثالث: أن يترك سبّ أمير المؤمنين لما يعنيه هذا الفعل من عنف موجّه إلى الآخرين، لالحاق الضرر النفسي فيهم، والانتقاص من رمز لهم يجلّوه ويقدسوه، وهو ما اصطلح عليه في عصرنا بالعنف الرمزي، أو المعنوي الذي (يلحق الضرر بالموضوع سيكولوجياً: في الشعور الذاتي بالأمن والطمأنينة والكرامة والاعتبار والتوازن).
(إذ ليس هناك من تصرّف سواء أكان سلبياً – كرفض العون مثلاً – أو ايجابياً، رمزياً كالسخرية مثلاً أو ممارس فعلياً لا يمكنه أن ينشط كسلوك عدواني).
في البند الرابع: أن يفرق بين أولاد من قتل، والمغزى واضح فيه، وهو تعويض هؤلاء الأبناء عمّا لحق بهم من ضرر نفسي، واجتماعي، واقتصادي نتيجة مقتل آبائهم المعيلين لهم، والمتربّين في احضانهم.. فهو تعويض – وإن لم يكن كافياً – عن مرارة اليتم والفاجعة والحزن الذي اصاب هؤلاء الأبناء.. وهو ما نراه تأخذ به المحاكم في القوانين العصرية الحديثة، حين يقيم المتضرر نفسياً الدعوى على من أوقع به الضرر مطالباً بالتعويض المادي عما لحق به.
في البند الخامس: احتوى على أربعة عشرة مادّة رافضة للعنف بجميع اشكاله.
فالناس آمنون، ولا يتحقق هذا الأمن إلا بعدم وجود ما يشعر بالخوف وعدم الطمأنينة.
وان يكون الأمن شاملاً لجميع الاعراق والألوان، لا فرق بين اسود واحمر، لأنّ الناس سواسية في الشعور بالخوف والأمن.. احتمال الهفوات يدلّ على العفو لما بدر من الآخرين من أخطاء، يبقى الخوف من تبعاتها مسلّطاً على الرقاب وباثّاً الرعب في النفوس.
وعدم اتباع أحد بما مضى من سابق جناية أو خطأ ارتكبه، ليشعر المخطئ بالعفو عمّا ارتكبه، ولتكون فرصة لعدم الرجوع إلى الخطأ مرة أخرى ولا يأخذ أهل العراق بإحنّة، وتعني الحقد والغضب لأنّهم قاتلوا ضده، وعلى أمان أصحاب من قادهم للقتال ضده، وهم آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، إلى آخر ما موجود في هذا البند.
وهي جميعها – تلك المواد – تلحّ على مبدأ الأمن والطمأنينة وعدم الخوف، وعدم الإيذاء، وعدم منعهم من الحصول على ما تعودوا عليه.
كلّ ذلك يكشف لنا الوجه المدني المتحضر للسياسة التي اتبعها الإمام الحسن (عليه السلام) في مقابل الوجه الآخر للسياسة بمعناها الوحشي الذي اتبعه معاوية. سواءً قبل الصلح أو بعده.
فإذا كان هدف السياسة والممارسة السياسية هو (تحقيق المصلحة، أكانت فـــردية أو جماعية، وتــنميتها والــــدفاع عنها) وهو ما كان يعمل عليه الإمام الحسن (عليه السلام)، فإنّ الوجه الآخر للسياسة الذي هو (بمثابة عملية نزاعية مجرّدة من كلّ قيمة إنسانية ومن كل قاعدة اخلاقية ترعى مصالح الآخرين أو تحترم حقوقهم، أو حتى آدميتهم في بعض الحالات)، قد عمل عليه معاوية من خلال منزع تسلطي وعنفي يفضي إلى اقصاء أيّ خصم عن ميدانها بالقمع المنظم والقمع العشوائي.
هذا القمع عند تسليط الضوء عليه، يكشف عن نزعة عدوانية كامنة في نفسية معاوية.. الذي يمكن النظر لعدوانيته (إنّها سلوك مدفوع بالغضب، والكراهية، أو المنافسة الزائدة، وتتجه إلى الإيذاء والتخريب أو هزيمة الآخرين).
خاتمة:
لا يمكن أن أدّعي بأنّي قد قدّمت تفسيراً واضحاً لمبدأ اللاعنف الذي اشتملت عليه بنود الصلح في هذه العجالة القصيرة، وحسبي أنّي أوقدت شمعة صغيرة تنير لمن يهمّه قراءة أحداث التاريخ بعيون معاصرة ترتبط أحداث ما مرّ بواقعنا وحاضرنا للخروج بعبرة إلى مستقبلنا ومستقبل الأجيال القادمة.
المصدر: https://imamhassan.org/