يقول تعالى : ﴿ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ 1 .
تعتبر هذه الآية الكريمة قاعدة إسلامية لسلوك الدعوة في الحياة ، وهي تريد إبعاد الدعاة عن أساليب السباب والشتائم ، في ما يخوضون فيه من صراع الفكر والفكر المضاد ـ سواء في ما يختلفون فيه من تقييم للمبادئ وللمواقف ، أو في ما يتنازعون فيه من تقييم لرموز أو أشخاص ـ لأنّ هذه اللغة تجر إلى ردود فعل حيث تضع الموقف في نطاق المهاترات ، وتبعده عن أجواء الحوار الهادئ الموضوعي ، وينتهي الأمر بهم إلى الفراغ والضياع .
وقد تحدثت الآية عن هذه القاعدة من خلال نموذج حي ، مما كان يبتلى به المسلمون الأولون ، من جراء ما يواجهونه من حقد المشركين وعداوتهم وطغيانهم ، فيرون أنّ السبيل الوحيد للتنفيس في سبّهم وشتمهم ، وكتعبير عن رفضهم لكل ما يعبدون وما يشركون بالله ، وربما أدّى ذلك إلى أن يخلق في داخل المشركين لوناً من ألوان الإثارة والاستفزاز ، فيكون رد الفعل أن يواجهوا السبّ بسبٍّ مثله . . فيسبوا الله ، تنفيساً عن غيظهم ، وتعبيراً عن حقدهم ، وتحقيراً للمؤمنين به .
وقد أراد الله في هذه الآية ، أن ينهى المسلمين عن المبادرة إلى سب الذين يدعون من دون الله بغير علم ، أو سب آلهتهم في عملية المواجهة ؛ لأنّ ذلك لن يحقق أية نتيجة إيجابية لمصلحة الإيمان ، لأنّ المقصود من الدعوة هو الوقوف ببرهان على مقتضيات الأمور الذي يتميز به الحق عن الباطل ، وأما السباب فمن شأنه أن يؤدي إلى تعقيد الأمور بطريقة أكبر ، وإقامة الحواجز النفسية ضد الإيمان والمؤمنين ، وتحويل الموقف إلى سب الله من قبل المشركين .
ولذا لا يجوز للإنسان الذي يحترم نفسه ومصيره ، أن يخضع لحالة انفعالية طارئة ، فتكون تصرفاته رد فعلٍ عصبي لتلك الحالة .
وفي الصحيح عن أبي بصير ، عن الباقر قال : “إِنَّ رَجُلًا مِنْ تَمِيمٍ أَتَى النَّبِيَّ فَقَالَ : أَوْصِنِي ، فَكَانَ فِيمَا أَوْصَاهُ أَنْ قَالَ : ” لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْسِبُوا الْعَدَاوَةَ لَهُمْ ” .
وفي الصحيح عن أبي حمزة الثمالي ، عن الباقر قال : خَطَبَ رَسُولُ اللهِ النَّاسَ فَقَالَ : ” أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ ” ؟ .
قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ .
قَالَ : ” الَّذِي يَمْنَعُ رِفْدَهُ ، وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ ، وَيَتَزَوَّدُ وَحْدَهُ ” . . فَظَنُّوا أَنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقاً هُوَ شَرٌّ مِنْ هَذَا .
ثُمَّ قَالَ : ” أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ” ؟ .
قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ .
قَالَ : “الَّذِي لَا يُرْجَى خَيْرُهُ ، وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ” . . فَظَنُّوا أَنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقاً هُوَ شَرٌّ مِنْ هَذَا .
ثُمَّ قَالَ : “أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ ” ؟ .
قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ .
قَالَ : ” الْمُتَفَحِّشُ اللَّعَّانُ ؛ الَّذِي إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ الْمُؤْمِنُونَ لَعَنَهُمْ ، وَإِذَا ذَكَرُوهُ لَعَنُوهُ ” .
وجاء في بعض كلمات الإمام علي ـ في ما كتبه لعبد الله بن عباس ـ : ” فَلا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ وَلَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ أَوْ إِحْيَاءُ حَقٍّ ” .
وعلى هذا ، فإنّ السب الذي يستتبع مثل هذه النتيجة السيئة لن يشارك في إحياء الحق وإطفاء الباطل ، بل يمثل مجرد حالة ذاتية من بلوغ لذة أو شفاء غيظ ، فلا يجوز للمسلم أن يبادر إلى ذلك ، لأنّه يسيء إلى الهدف ، في ما يثيره من سلبيات ضد قضية الإيمان ، وفي ما يحققه من إيجابيات لقضايا الكفر .
من وحي الآية
ومن هذه الآية الكريمة نستوحي المبدأ الذي يدعو إلى الكف عن أي نوع من أنواع السباب الذي يؤدّي إلى ردود فعل سلبية ، في أي موقعٍ من مواقع الصراع الفكري والديني والسياسي والاجتماعي ، للحيثيات نفسها التي تفرض النهي في مورد الآية .
وفي ضوء ذلك ، نحب التأكيد على ما قد يحدث عند الخلافات الدائرة بين المسلمين حول تقييم بعض الشخصيات الإسلامية التاريخية أو المعاصرة ، بين من يحترمها ويعظمها ، وبين من لا يحترمها ولا يعظمها ، فقد نجد الخلاف يحمل ـ في طريقة ممارسته ـ بعض ألوان السب لهذه الجهة أو تلك ، ما يوجب مزيداً من العداوة والبغضاء والتمزق والعصبية العمياء التي قد تؤدي بالحياة الإسلامية إلى الضياع ، كما قد يفرض على الساحة الإسلامية وضعاً منحرفاً يعيش المسلمون معه أجواء المهاترات والكلمات غير المسؤولة .
وقد جاء في نهج البلاغة ، في ما يروى عن الإمام علي أنّه سمع قوماً من أهل العراق يسبّون أهل الشام ، عندما كان يخوض المعركة في صفين ضد معاوية ، فوقف فيهم خطيباً قائلاً :
” إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ ، وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ ، وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ ، وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلالَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ ” .
وقد جاء في اعتقادات الإمامية للصدوق والمفيد ـ رحمهما الله ـ أنّ أحدهم سأل الإمام الصادق : يا ابن رسول الله إنا نرى في المسجد من يعلن بأسماء أعدائكم ويسبهم ؟ فقال : ” ماله لعنه الله يعرّض بنا ” .
إننا نريد للمسلمين أن يرتفعوا إلى هذا المستوى الذي يعيشون من خلاله روحية الإسلام وانفتاحه ورحمته ومسؤوليته وواقعية أحكامه في الحياة ، ليتمكنوا ، في ذلك ، من الوصول إلى النتائج الإيجابية الكبيرة على مستوى الوحدة ، وعلى مستوى سلامة المصير وسلامة الدين 2 .
- 1. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 108 ، الصفحة : 141 .
- 2. شبكة راصد الإخبارية ـ 18 / 9 / 2010 م ـ 1 : 06 ص .