الدعوة إلى الدولة
من واجب حقوق الله على العباد: النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم.
وجوب الدعوة
إن وجوب الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية – الآن – على المسلمين من الوضوح بالموضع الذي لا يحتاج إلى مزيد بيان.
ونحن إذا عدنا نقرأ مرة ثانية ما سبق من الحديث عن ذلك في موضوع (انتظار الإمام) ألفيتنا غير مفتقرين – من ناحية منهجية – إلى العودة إلى استعراض المسألة مرة أخرى.
أسلوب الدعوة
أما أسلوب الدعوة أو أسلوب العمل من أجل إقامة دولة إسلامية الآن.. فيتنوع – شأنه شأن أي أسلوب أخر يهدف من ورائه إلى أقامة دولة -إلى نوعين هما:-
1- الثورة: ويعنى بها الثورة المسلحة، وهي: استعمال القوة في القضاء على الحكم الكافر في الوطن الإسلامي واستبداله بالحكم الإسلامي.
والثورة – هنا – مشروطة – شرعياً بتوفر شروطها وتهيؤ أجوائها ومجالاتها.
2- التدرج: ويعنى به اتباع الطرق السلمية، أمثال: القيام بتوعية الأمة سياسياً، وتثقيفها فردياً وجماعياً، خاصاً وعاماً، فنقوم:
1- بفتح المدارس في مختلف مراحلها: الروضة والابتدائية والثانوية والعالية، وللجنسين، شريطة أن تكون مناهجها وكتبها إسلامية خالصة، تستمد من حضارتنا الأصيلة النقية، هادفين منها إلى تغذية أبنائنا بالثقافة الإسلامية البناءة التي تحوّل من المسلم حركية فعالة في طريق تكوين المجتمع الإسلامي، وأن يكون القائمون على الإدارة والتربية فيها مسلمين مبدئيين.
2- بإصدار المجلات والصحف بمختلف ألوانها: يومية وأسبوعية وشهرية وفصلية.. شعبية وخاصة، شريطة أن تموّن بالفكر الإسلامي الخلاق الهادف.
3- بنشر الكتب مفردة ومتسلسلة.. شعبية وخاصة، ناشدين من ورائها تعميم الثقافة الإسلامية المبدعة الهادفة.
4- بإيجاد المكتبات بأقسامها المختلفة: المتجولة والثابتة، والريفية والمدنية، مزودة بجميع ما تتطلبه مستوياتها ومجالاتها من الكتب والمؤلفات الإسلامية.
5- بتأسيس النوادي: ثقافية ورياضية، شريطة أن تكون جادة، وفي صدد غرس الروح الإسلامية وتنميتها وإثمارها.
6- بتكوين الجمعيات للخدمات الاجتماعية على ضوء ما يأمر به الإسلام من أعمال البر والإحسان والتكافل، وما شاكلها.
7- التكتل السياسي، شريطة أن تتبع الأساليب في إطار الأحكام الإسلامية..
8- وبما يماثلها).
وبعد أن تستيقظ الأمة، وتدرك بسبب مفعول التثقيف أن مسؤوليتها أمام الله تعالى في أن تطبق الإسلام، وأن سعادتها في تطبيقه.. وهو أمر لا يتأتى إلا عن طريق إقامة الدولة الإسلامية، تحقق ذلك وبيسر.
شبهة
وهنا أود أن أقف قليلاً عند شبهة، كثيراً ما تثار حول العمل عن طريق التكتل السياسي، محاولاً كشف المفارقة فيها، بغية إزالتها.
والشبهة تتلخص في أن الإسلام لا يقر العمل الحزبي،.. والتكتل السياسي – بطبيعته – لا يخرج عن كونه عملاً حزبياً، سواء كان علنياً أو سرياً.
ومنشأ هذه الشبهة – فيما اعتقد – هو التخدير الاستعماري الذي لعب دوره الفعال في تعميق فكرة فصل الدين عن السياسة بأذهان أبناء أمتنا الإسلامية، حتى عاد كل ما يتصل بالسياسة ليس من الإسلام.
إلا أننا متى حاولنا فهم معنى الحزب، وما تعنيه الكلمة في لغة القانون والسياسة تتبين المفارقة فتزول الشبهة.
إن مفهوم حزب يعني: المنظمة السياسية التي تعمل وفق أيديولوجية معينة، هادفة إلى تسلم السلطة، فتحقيق غاياتها المتوخاة عن وسيلتها.
وهذا المفهوم للحزب – بطبيعته – يعني أن الحزب ما هو إلا وسيلة أو أسلوب.
ومرّ أن أوضحت قبل هذا – أن الوسائل والأساليب موضوعات وليست بأحكام.
والموضوعات – وهو أمر بديهي – تختلف أحكامها باختلاف ظروفها وأحوالها، وتتبدل بتغيرها..
فقد يكون الحزب في ظرف معين أو حال معين محكوماً بالحرمة، كما لو كان الحكم الإسلامي قائماً وعادلاً، كما في عهد النبي صلى الله عليه وآله,
وقد يكون الحزب في ظرف معين وحال معين كذلك محكوماً بالوجوب، كما لو كان مقدمة لواجب، أمثال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الجاهل، وإقامة الحكم الإسلامي.
وربما كانت الآية الكريمة (فإنّ حزب الله هم الغالبون) ترشد إلى ذلك، حيث تعطي أن حزب الله تعالى وهم الجماعة المناصرة لله هي الغالبة..
والغلبة – طبيعياً – لا تتأتى إلا نتيجة صراع، والصراع كما يكون حول قضايا نظرية، وأخرى عملية، من نوع غير سياسي، يكون حول أمثالها من نوع سياسي، ومنها قضية الحكم.
وليس الحزب – في واقعه – متى قام على أساس من أيديولوجية إسلامية إلا تلك الجماعة التي تشير إليها الآية الكريمة.
والخلاصة
إن مسألة الحزب – فيما أفهمه – هي مسألة موضوع يرتبط بما ينهي تهاد المفتي من حكم: حرمة كان أو وجوباً أو غيرهما، متى ما ثبت معناه لديه.
وليست هي مسألة تهويلات المضللين من أتباع الأحزاب الكافرة، وأذناب المستعمر الكافر، ومن سار في ركابهما شاعراً أو مخدوعاً.
تقييد الدعوة:
ويقيد جماعة من فقهائنا الدعوة إلى إقامة حكم إسلامي بالأمن من الخطر.
والذي أخاله: أن العمل وفق هذا الرأي يلزمنا – عادة – بتحديد موضوع هذا القيد:
فيما يبدو لي: إن أمثال هذا التقييد لا يتأتى مع اتباع أسلوب الثورة، وذلك لتوفر القوة الكافية التي تبعد وقوع الخطر الذي يشير إليه القيد، والذي لا ينهي – عادة – إلى تحقيق واجب أخر أهم من التضحية.
وكذلك لا يتأتى هذا التقييد مع اتباع أسلوب التدرج، لا في مراحله الأولى، لأن العمل – بطبيعة أيديولوجيته تنظيمية – لا يهدف إلى صراع سياسي ولا يقوم به.. ولا في مراحله النهائية، لأن العمل يبلغ فيها استكماله القوة الكافية اجتماعياً وسياسياً، إلى التوصل إلى تحقيق الواجب.
نعم.. يتأتى هذا التقييد في اتباع أسلوب الثورة قبل استجماع القوة الكافية، وفي اتباع أسلوب التدرج حينما يقوم العمل بالصراع السياسي في المراحل الأولى.. إذا لم تكن الظروف – بطبيعتها – تتطلب التضحية كوسيلة نهائية حاسمة في الاحتجاج أمام الكفر والانحراف.
على أننا إذا لاحظنا: أن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ينقسم باعتبار ظروفه إلى قسمين:-
1- في ظرف وجود حكم إسلامي عادل.
2- في ظرف وجود حكم كافر، أو حكم إسلامي منحرف لا يقضى عليه إلا بالتضحية.
وأن هناك من فقهائنا الأعلام من يذهب إلى أن خوف الضرر الذي هو أحد شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقتصر اشتراطه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من نوع القسم الأول،.. أما بالنسبة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من نوع القسم الثاني، فيسقط هذا الشرط، وتلزم التضحية بالنفس والمال للإطاحة بالحكم الكافر، أو المنحرف، وإقامة الحكم الإسلامي شريطة أن تؤثر التضحية، ولو تأثيراً ضئيلاً إذا كان مما يعتد به.
أقول: إننا إذا لاحظنا ذلك يضيق مجال ذلكم التقييد كثيراً.
وفيما أظنه: أن من يشترط الأمن من الخطر من الفقهاء، لا يلزم به من يقطع بأن أمثال هذه التضحيات تنهي إلى تحقيق الواجب.
على أن المسألة – فيما أعتقد – لا تحتاج إلى هذا، بعد أن أثبت تاريخ الشهداء، وتاريخ مختلف الأحزاب السياسية، أن التضحيات هي سبيل الإطاحة بحكم وإقامة حكم أخر على أنقاضه.
شبهة أخرى
وهي شبهة تقتضي منهجة البحث أن أقف عندها ولو قليلاً، لأكشف موضع المفارقة فيها، محاولاً رفع الالتباس، لأنها تدور حول سقوط الدعوة:
ربما يبدو للبعض أن قضية الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية، تدور بين أمرين كل منهما مسقط لوجوب الدعوة.. وهما:
أ – إما أن تكون البشرية الآن، على استعداد تام لتقبل الإسلام..
ب – أو لا تكون على استعداد تام لتقبل الإسلام..
فان كانت البشرية الآن على استعداد تام لتقبل الإسلام، فلابد حينئذ من ظهور الإمام المنتظر عليه السلام، لأن مثل هذا الظرف بما فيه من استعداد تام يحتم عليه الظهور، وعند ظهوره فأمر الدعوة يعود إليه.
وإن كانت البشرية ليست على استعداد تام لتقبل الإسلام، فسيكون نصيب الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية عدم النجاح، فلا فائدة – إذن – بالدعوة.
والمفارقة في هذا الرأي تمكن في أنه ينطوي – في واقعه – على خلط بين الدولة التي أنيطت مسؤولية إيجادها بالإمام المنتظر عليه السلام، وبين الدولة التي ألقيت مسؤولية العمل من أجل قيامها على عاتق المسلمين.
فان الأولى – أعني دولة الإمام – عالمية،.. ولعلها من أبرز خصائصها – كما تقدم -.
والثانية لا يشترط فيها أن تكون عالمية حيث لم يدل على ذلك دليل من النصوص الشرعية، ولا من العقل مع عدم القدرة.
فنحن متى التفتنا إلى موضع المفارقة في هذا الرأي، وهو ذلكم الخلط بين دولة الإمام عليه السلام التي من أوليات شروطها أنها عالمية.. وبين الدولة التي يجب على المسلمين العمل من أجل إقامتها.
أقول: متى التفتنا إلى موضع المفارقة سهل علينا معرفة موقع الالتباس في أمثال هذه الشبهة.
على أنه لا يحتمل أن فقيهاً ما، لا يفتي بوجوب قيام دولة إسلامية في قطر ما، إذا كان ذلك القطر مستعداً ومهيئاً لقيامها نتيجة الوعي السياسي الإسلامي الذي شمله.
ولست أدري ما يقول من يرسل مثل هذا الرأي، لو قدر أن بلاداً ما، من بلدان المسلمين سادها الوعي السياسي الإسلامي، وامتلك أهلها زمام أمورهم السياسية، ورفعوا أمرهم إلى الفقيه المتوفر على شروط الحاكم المسلم، يطلبون منه أن يحكمهم بالإسلام، وكان الأمر في وضعية من الخطورة بحيث إذا لم يحكمهم، ويوكل الموضوع إليهم أنفسهم، يقعون في مخالفات شرعية كثيرة، لجهلهم بالأحكام ومواضع التطبيق.
أيؤمن بشيء أخر غير إجابة الفقيه لهؤلاء؟..
لا أحتمل أن أحداً ممن له أدنى معرفة بالتشريع الإسلامي يحتمل عدم جواز الإجابة.
أحاديث قيام دولة قبل الإمام
يضاف إليه:
إن هناك من الأحاديث المروية – والتي سبق وأن استعرضتها – ما يشير إلى قيام دولة إسلامية غير عالمية، قبل ظهور الإمام المنتظرعليه السلام يسلمها أصحابها إلى الإمام عند ظهوره عليه السلام.
وهو مما يلقي الضوء على المسألة.. أمثال:
1- ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله: (يأتي قوم من قبل المشرق، ومعهم رايات سود. فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون، فيعطون ما سألوه، فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملأها قسطاً كما ملأوها جوراً، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج).
2- وما روي عن الإمام الباقر عليه السلام: (كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق، يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه حتى يقيموا، ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم (يعني الإمام المنتظر – عليه السلام -)، قتلاهم شهداء).
رفع التباس:
وهنا.. قد يبدو للبعض أن قيام مثل هذه الدولة يكون مجالاً لظهور الإمام المنتظرعليه السلام.
قد يكون ذلك فيما إذا كانت الدولة متوفرة على شروط الظهور.
وقد لا يكون، وهو فيما إذا كانت غير متوفرة.. فتسهم في هذه الحال بالتمهيد لخروجه عليه السلام.
عجل الله تعالى فرجه، ورزقنا نصرته، والشهادة بين يديه، إنه سميع مجيب.1
1- دولة القائم المنتظر / العلامة عبد الهادي الفضلي .
المصدر:شبكة المعارف الاسلامية