بسم الله الرحمن الرحيم
تدبُّرٌ في معنى المعيَّة في القرآن الكريم
بقلم: زكريا بركات
قال الله تعالى: (…وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ـ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ ـ : يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ، قَالَ: لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ…) سورة هود: 42 ـ 43 .
يُمكننا بالتدبُّر في الآية الكريمة أن نستنتج ما يلي:
1 ـ المعيَّة التي تُنجي الإنسان وتمنحه قيمةً وفضلاً ليست هي المعيَّة الزمكانية لحُجَّة الله، فابنُ نوحٍ كان معه طوال عمره، وهو من أقرب الناس إليه في نظر أهل الدنيا.. ولكن المعيَّة التي تُنجي الإنسان وتمنحه قيمةً وفضلاً هي المعيَّة في مفترق الطرُق حيث ينقسم الناس، فيكون فريق منهم مع حُجَّة الله وفريقٌ آخر مع غيره، فالذي يكون مع حُجَّةِ الله حينئذٍ فهو الذي تنفعه معيَّته وتُكسبه الفضل وتمنحه النجاة.
2 ـ إنَّ المعيَّة لحُجَّة الله لا تحصل بالادِّعاء بل تحصل بطاعته وركوب سفينته، فمن عصى حُجَّة الله ولجأ إلى مُعتصَم غير سفينته فقد اختار ما اختاره الكافرون، فهو حينئذ ليس مع حُجَّة الله بل هو مع الكافرين، فهناك مُقابلة بين المعيَّتين: (اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) ، ومن كان مع الكافرين فإنه ينطلق من منطلقات نفسية تجعله يشبههم ويميل إلى ما يختارونه من معصية حُجة الله ومفارقة سفينته والبحث عن معتصَم آخر لا يجدي نفعاً.
3 ـ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (إنَّما مَثَلُ أهل بيتي فيكم كسفينة نوح؛ من ركبها نجا ومن تخلَّف عنها غرق…) ، من مصادر الحديث: المصنف لابن أبي شيبة (7/ 503) ، والمعجم الكبير للطبراني (3/ 45 ـ 46) و (12/ 27) ، ومسند الشهاب للقضاعي (2/ 273 ـ 275) ، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي (12/ 90) .. وغيرها. والحديث صحيحٌ.
فركوب السفينة في هذه الأمَّة يتحقَّق بالتشيُّع، أي بموالاة أهل البيت (ع) واتِّباعهم، وبضمِّ هذا إلى ما ذُكر سابقاً ؛ يُفهم أنَّ الذي يكون من شيعة أهل البيت (ع) يكون مع رسول الله (ص) ، بينما من يرفض ركوب سفينة الولاية فإنَّه لا يكون مع رسول الله (ص) ، بل يكون مع الكافرين، ومن هنا نفهم المقصود بالمعية في قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ…) سورة الفتح: 29 ، فإنَّ المقصود بالمعيَّة ليست هي المعيَّة الزمكانيَّة كما تقدَّم توضيحُه، بل هي المعيَّة التي تتحقَّق عند مطالبة حُجَّة الله للناس بركوب السفينة، فمن ركب كان معه، ومن لم يركب كان مع الكافرين.. فالذي فهمه البعض من أنَّ المعيَّة تدل على فضيلة جميع من يُعبَّر عنهم بالصحابة، هو فهمٌ غير صحيح، فإنَّ المقصود بالمعيَّة هي المعية التي تتحقَّق بطاعة حُجَّة الله وركوب سفينته، وسفينة رسول الله (ص) هي ولاية أهل البيت (ع) ، فيلزم أن يُقيَّم الصحابة وغيرهم على ميزان الولاية، فمن كان من الناس مطيعاً لرسول الله (ص) ، راكباً سفينة الولاية، فهو مع رسول الله (ص) ، ومن كان عاصياً لرسول الله (ص) ، غيرَ راكب لسفينة الولاية، فليس مع رسول الله (ص) بل هو مع الكافرين.. وفي التعبير بالمعية دون المنية، أي إنه قال: (ولا تكن مع الكافرين) ، ولم يقل: ولا تكن من الكافرين، إشارةٌ لطيفةٌ إلى أنَّ من كانت حالُه كذلك فهو قد لا يكون كافراً صراحةً، بل قد يكون ممن يحسبه الناس من المؤمنين، ولكنَّ موقفه (عند اختبار الولاية) هو الذي يجعله في صفِّ الكافرين ومعهم وليس مع نبيِّ الله وحُجَّته.
فتبيَّن من ذلك أنَّ الذين هم (مع رسول الله) في قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ…) هم أهل الولاية من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، أي الذين ركبوا سفينة رسول الله (ص) التي تتمثَّل في ولاية أهل البيت (ع) .
هذا باختصار.. والله وليُّ التوفيق.