مقالات

الدليل الأول: على تورط يزيد بدم الحسين (ع)

ونبدأ أولاً: ببيان المنشأ من تنصيب يزيد بن معاوية لعبيد الله بن زياد على الكوفة بعد أنْ لم يكن والياً عليها في أيام معاوية بن أبي سفيان وإنَّما كان والياً أيام معاوية على البصرة فحسب، وقد ذكر المؤرِّخون انَّ يزيد بن معاوية كان واجداً على ابن زياد حتى همَّ بعزله عن ولاية البصرة.
وملاحظة كتب التاريخ تكشف عن أنَّ المنشأ من تنصيب يزيد لابن زياد على الكوفة إنَّما هي قضيَّة الحسين (ع) بعد أنْ أبى البيعة وسافر إلى مكة المكرمة وبعد أنْ بعث إليه أهلُ الكوفة يسألونه البيعة والخروج على يزيد بن معاوية، وبعد أنْ تناهى إلى مسامع يزيد بن معاوية انَّ الكوفة تتهيّأ للثورة على الخلافة الأمويَّة بقيادة الحسين بن علي (ع) وأنَّ النعمان بن بشير -والذي كان والياً على الكوفة آنذاك- ضعيفٌ أو يتضاعف.
واليك هذا النصُّ التاريخيُّ الذي ينقله لنا الطبري، حيث قال بعد أن ذكر أنَّ اثني عشر ألفاً من أهل الكوفة قد بايعوا مسلم بن عقيل رسول الحسين (ع) قال: (قام رجلٌ ممَّن يهوى يزيد بن معاوية إلى النُعمان بن بشير فقال له: إنَّك ضعيفٌ أو متضعف، قد فسد البلاد. فقال له النعمان؛ أنْ أكون ضعيفاً وأنا في طاعة الله أحبُّ إليَّ من أن أكون قويَّاً في معصية الله، وما كنتُ لاهتك ستراً ستره الله.
فكتب بقول النعمان إلى يزيد، فدعى يزيد مولىً له يُقال له سرجون، وكان يستشيره، فأخبره الخبر، فقال له: أكنتَ قابلاً من معاوية لو كان حيَّاً، قال: نعم، فاقبل منِّي فإنَّه ليس للكوفة إلا عبيد الله بن زياد، فولَّاها إيّاه، وكان يزيد عليه ساخطاً، وكان همَّ بعزله عن البصرة، فكتب إليه برضائه وانَّه ولَّاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أنْ يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إنْ وجده) 1.
إنَّ هذا النصَّ التاريخيَّ يوضح أنَّ منشأ تنصيب يزيد لعبيد الله بن زياد على الكوفة إنَّما هو قضيَّة الحسين (ع)، ولولاها لما كان يزيد لينصِّب ابن زياد على الكوفة بعد أنْ كان واجداً عليه وبعد أن همَّ بعزله، وذلك يوضح أنَّ غرض يزيد بن معاوية هو أنْ يتصدَّى ابنُ زياد لهذه المشكلة الخطيرة.
وهنا نقول: إنَّ يزيد بن معاوية إمَّا أن يكون قد فوّض الأمر لعبيد الله بن زياد وأعطاه صلاحيَّة الممارسة لتمام الخيارات والتي منها قتل الحسين (ع) إذا ارتأى ذلك، أو يكون قد أمره بأخذ الحيطة والحذر على أنْ يستشيره في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ وأنْ يبعث إليه بتفاصيل الأخبار، أو أن تكون الاستشارة في الأمور الخطيرة والتي تكون تبعاتها -لو اتَّفقت- بالغة الأهميَّة، وليس هناك احتمالاتٌ أخرى غير الذي ذكرناه.

وتلاحظون أنَّ تمام هذه الاحتمالات لا تنفي مسئوليَّة يزيد عن دم الحسين (ع).

فالاحتمال الأول: -والذي هو تفويض الأمر لعبيد الله بن زياد- وإنْ كان بعيداً كما سيتَّضح إلا انَّه لو كان هو المتعيّن واقعاً لكان ذلك موجباً لإدانة يزيد، إذ لا يخفى على يزيد أنَّ أحد الخيارات التي يُمكن أن يتبنَّاها عبيدُ الله بن زياد هي قتل الحسين (ع) بل هو خيارٌ قريبٌ جداً مع الالتفات إلى أنَّ الحسين (ع) قد شرع في الثورة، وانّ محاربته قد تستوجب قتله وانَّ بقاءه يُمثِّل خطراً على الوجود الأموي، فلو كان يزيد متنزِّهاً عن قتل الحسين (ع) لكان عليه أن يُنبِّه عبيد الله بن زياد ويمنعه عن اللجوء إلى هذا الخيار، في حين إنَّنا لا نجد في التاريخ من ذلك عيناً ولا أثراً بل ما نجدُه على عكس ذلك كما سيتَّضح إنْ شاء الله تعالى.

وأما الاحتمال الثاني: فلو كان هو المتعيّن فهو أيضاً لا ينفي الإدانة عن يزيد، وذلك لأنّ ابن زياد لو امتثل واستشار يزيد في الأمور الخطيرة فليس شيءٌ أخطر من قتل الحسين (ع) والذي ليس له سابقة في الإسلام، وهل يخفى على مثل ابن زياد ما يترتَّب من مضاعفات على قتل الحسين (ع) بعد أن كان مطَّلعاً على موقعه الديني ومنصبه الاجتماعي، فمن المُحتَّم أن لا يستقلَّ عبيد الله بن زياد بهذا الإجراء الخطير، وحينئذٍ إنْ كان ابن زياد قد استشار يزيد في قتل الحسين (ع) فأمضى يزيد ذلك فهذا هو المطلوب إثباته، وإن لم يكن قد أمضاه على ذلك وانَّ عبيد الله قد استقلَّ بهذا الفعل وانَّ يزيد بن معاوية قد غضب على عبيد الله بن زياد بعد قتله للحسين -كما يزعمون- فهذا ما لا نجدُ عليه دليلاً من التاريخ، إذ ما معنى أنْ يغضب يزيد على ابن زياد والحال انَّه أقرَّه على الولاية(2) 2 ولم يعزله والذي هو أدنى ما يُمكن أنْ يصنعه يزيدُ تعبيراً عن غضبه، وسيتَّضح أنَّ هناك ما يُؤكِّد إمضاء يزيد لما فعله عبيدُ الله بن زياد.
وأما الاحتمال الثالث: فهو المناسب للاعتبارات العقلائيَّة بعد الالتفات إلى خطورة هذه القضيَّة وما يترتَّب عليها من تبعات، فالمُطمئنُ به أنَّ يزيد بن معاوية حين ولَّى ابن زياد على الكوفة أمره بأنْ يستشيره في كلِّ ما يتَّصل بقضية الحسين (ع) وأنْ يبعث إليه بتفاصيل الأخبار، وهذا ما يُؤكِّده التاريخ، واليك هذا النصُّ الذي ينقله إلينا الطبري: (إنَّ عبيد الله بن زياد لمَّا قتل مسلماً وهانئاً بعث برؤسهما مع هانئ بن أبي حيَّة الوادعي والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد بن معاوية وأمرَ كاتبه أنْ يكتب إلى يزيد بن معاوية بما كان من مسلم وهانئ… اكتب أما بعد: فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقِّه وكفاه مؤنة عدوِّه، اُخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أنَّ مسلماً بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي وانِّي جعلتُ عليهما العيون ودسستُ إليهما الرجال وكدتهما حتى استخرجتهما وأمكن اللهُ منهما، فقدَّمتُهما وضربتُ أعناقهما، وقد بعثتُ إليك برؤسهما مع هانئ بن أبي حيَّة الهمداني والزبير بن الأروح التميمي، هما من أهل السمع والطاعة والنصيحة، فليسألهما أمير المؤمنين عمَّا أحبَّ من أمر، فإنَّ عندهما علماً وصدقاً وورعاً، والسلام).
فكتب إليه يزيد: أمَّا بعد فإنَّك لم تعدُ أنْ كنتَ كما اُحبُّ ، عملتَ عمل الحازم وصلتَ صولةَ الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيتَ وكفيتَ وصدَّقت ظنِّي بك ورأيي فيك، وقد دعوتُ رسوليك فسألتُهما وناجيتُهما فوجدتُهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوصِ بهما خيراً.
وانَّه قد بلغني أنَّ الحسين بن عليٍّ قد توجَّه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح واحترس على الظن وخذ على التهمة، غير أنْ لا تقتل إلاّ من قاتلك، واكتب إليَّ في كلِّ ما يحدث من الخبر والسلام عليك رحمة الله وبركاته)(3) 3.
هذا النصُّ التاريخي يُوضح تعيُّن الاحتمال الثاني وانَّ يزيد بن معاوية لم يفوِّض الأمر إلى عبيد الله بن زياد بل أمره بأن يكتب إليه عن شأن الحسين (ع) (بكلِّ ما يحدث)، ومن الواضح أنَّ ذلك ليس لغرض التعرُّف على الأخبار فحسب وإنَّما لغرض التصدِّي لمعالجتها كما هو شأن كلِّ مَن هو في موقع يزيد.
وتلاحظون أنَّ عبيد الله بن زياد كان يعلم بأنَّه لم يكن مفوَّضاً، والذي يُعبِّر عن ذلك انَّه حينما بعث برأس هانئ بن عروة مع رأس مسلم بن عقيل رغم انَّه لم يُؤمر بقتل هاني وإنَّما أُمر بقتل مسلم بن عقيل -كما يوضحه النص السابق الذي ذكرناه- تلاحظون انَّه برَّر قتل هاني بأنَّه كان قد آوى مسلم بن عقيل، ولو كان مفوَّضاً لما كان عليه أن يُبرِّر قتل هاني، إذ انَّ المبرِّر حينئذٍ هو الصلاحيَّة المعطاة له من قبل يزيد وانَّ له أنْ يفعل ما يراه مناسباً، إذ انَّ ذلك هو مقتضى التفويض.
وكذلك تلاحظون أنَّ ابن زياد ذكر الوسيلة التي توسَّل بها لغرض العثور على مسلم بن عقيل رغم أنَّ ذكر ذلك ليس لازماً لولا انَّه يعلم أنَّ يزيد يطلب منه التفصيل ولا يكتفي بالإجمال، ولو لم تقبلوا بذلك فلا أقل إنَّ ابن زياد كان يشعر بتعلُّق إرادة يزيد بذلك كما أنَّ من المحتمل قويَّاً انَّه كان يُريد أن يُعبِّر عن إخلاصه ليزيد وانَّه لم يألُ جهداً في سبيل معالجة هذه القضية المستعصية والخطيرة.
كما تُلاحظون إنَّ عبيد الله بن زياد لم يكتفِ بذلك بل انَّه بعث برجلين من أهل الإخلاص والطاعة لبني أميَّة ومن أهل الاطلاع على تفاصيل الأحداث التي وقعت، وسأل من يزيد أن يستفصل منهما ويسألهما عن تمام المُجريات التي مارسها في هذا السبيل.
كما لاحظتم الاهتمام البالغ الذي أبداه يزيد، وهذا ما تُعبِّر عنه مكاتبته إلى عبيد الله بن زياد، حيث كشفت تلك المكاتبة عن أنَّ يزيد قد اختلى برسولي ابن زياد وناجاهما وتعرَّف بواسطتهما على التفاصيل، وقد رضي عنهما أشدَّ الرضا، وهذا ما عبَّر عنه ثناؤه عليهما وإيصاء عبيد الله بن زياد بهما خيرا.
ثم إنَّ في المكاتبة ما يُعبِّر عن متابعة يزيد لقضية الحسين (ع) ولم تكن القناة الوحيدة التي يعتمدُ عليها هي عبيد الله بن زياد بل انَّ له قنوات أُخرى تُوصل إليه الأخبار، وهذا ما يكشف عنه قوله: (وانَّه قد بلغني انَّ الحسين بن عليٍّ قد توجَّه نحوَ العراق) فإنَّ هذا الخبر لم يكن في مكاتبة ابن زياد كما انَّ مساق العبارة يُؤكِّد انَّ الخبر لم يكن من الرسولين.
ثم إنَّكم تلاحظون أنَّ يزيد قد بتَّ في قضيَّة الحسين (ع) وصدَّر أوامر لابن زياد بأنْ يضع المناظر والمسالح وأنْ يأخذ على الظنَّة والتهمة وأنْ يقتل من يُقاتله، فلم يأمره بالمقاتلة فحسب والتي لا تستلزم القتل بل أمر بقتل من يُقاتل، وهذا يعني أنَّ الحسين (ع) إذا قاتله فهو مأمورٌ بقتله وإلاّ كان عليه أنْ يستثني الحسين (ع) من هذا الأمر الولايتي والذي لا رخصة فيه، فمتى ما قاتله الحسين (ع) فإنَّه مأمورٌ بقتله، بل إنَّ القدر المتيقَّن من هذا الأمر هو قتلُ الحسين (ع)، إذ أنَّ الحديث إنَّما هو عن الحسين (ع) فهو الذي توجَّه للعراق.
ومن المحتمل قويّاً أنْ يُقاتل ابن زياد، لانَّ الحسين(ع) إنَّما هو متوجِّه للكوفة وليس من المعقول أنْ يسلِّم عبيدُ الله الكوفة إلى الحسين(ع) طواعية، إذ إنَّ ذلك منافٍ لإرادة يزيد ، وما دعاه إلى تنصيب ابن زياد إلاّ المحافظة على الكوفة حتى لا تخرج عن الهيمنة الأُمويَّة وتكون في يد الحسين(ع). ويزيدُ وعبيدُ الله بن زياد على اطلاع بأنَّ مجيء الحسين (ع) إلى الكوفة إنَّما هو لهذا الغرض.
ثم إنَّكم لاحظتم أنَّ يزيد بن معاوية في هذه المكاتبة قد أثنى على عبيد الله بن زياد ومدحه برباطة الجأش والشجاعة والحزم، وأخبره بأنّه راضٍ عنه وانَّه واثقٌ بحسن تدبيره للأمور وإدارته لشئون الولاية، وهذا إيعازٌ واضح من يزيد لعبيد الله في أنْ يُواصل هذا النهج الذي انتهجه مع مسلم بن عقيل ويسير على هذا المنوال وانَّه لم تكن في إدارة ابن زياد في ذلك ما تستوجبُ المناقضة لإغراض يزيد بن معاوية.
كلُّ ذلك يُعبِّر عن اطلاع يزيد على تمام الإجراءات التي كان يُمارسها ابن زياد في هذا السبيل كما يُعبِّر عن متابعته لسياسة ابن زياد وانَّه لم يكن قد نصَّبه وفوَّض إليه الأمر وإلا لم يأمره بشيءٍ والذي منه القتل ولم يطلب منه أن يُخبره (عن كلِّ ما يحدث)(4) 4.
وبما ذكرناه يتَّضح أنَّ المسئول الأول عن دم الحسين (ع) هو يزيدُ بن معاوية وانَّ قرار القتل كان بأمرٍ منه. هذا أولاً 5.

  • 1. تاريخ الطبري ج4 / 258، الكامل في التاريخ ج3 / 267، 268، مقتل الحسين للخوارزمي ج1 / 288، تهذيب التهذيب ج2/302، البداية والنهاية ج8/164، كتاب الفتوح لابن أعثم من أعلام القرن الرابع الهجري ج5/61، كنز الدرر وجامع الغرر ج4/85، الأخبار الطوال 231.
  • 2. الكامل في التاريخ ج3/319 ـ 320، تاريخ الطبري ج4/387.
  • 3. تاريخ الطبري ج4 / 285، مقتل الخوارزمي ج1 / 308.
  • 4. ونقل ابن أعثم في كتاب الفتوح ما يقارب هذا النص قال: « واكتب اليَّ في كل يوم بما يتجدّد لك من خير وشر » ج5/109، الاخبار الطوال 231.
  • 5. المصدر : موقع سماحة الشيخ محمد صنقور حفظه الله نقلا عن كتاب “قراءة في مقتل الحسين” الأدلة على تورط يزيد بدم الحسين (ع) للشيخ محمد صنقور حفظه الله.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى