لست أعني بالتعددية هنا شرعية أن يكون للجماعات الإسلامية المختلفة فيما بينها رؤاها الخاصة في الإسلام، أو أن يُسمح لغير المسلمين في التعبير عن معتقداتهم الخاصة وممارستها وفقاً للطقوس المبنية في عقيدتهم. وإنما أعني ما هو حاصل بالفعل من قيام التيارات الإسلامية السابقة بحركة فكرية تنبىء عن هذا التعدد الكبير في المفاهيم والأفكار والمعتقدات. ومع أن معظم هذه الحركات إسلامية خالصة، وتنتمي إلى الحقل الديني نفسه وتستمد جذورها من مرجعية واحدة وهي النص القرآني والسُّنة الشريفة، إلا أنها تختلف فيما بينها إختلافاً يصل في بعضها إلى حد التنافر.
إذاً، فالمنطلقات التي أود أن أشير إليها تبتعد عن الهدف المعروف في بث فكرة التعددية الدينية، ومع أني لا أجد ضيراً في التسليم بشرعية التعددية العقائدية في الدين الواحد، إلا أن كثيراً من الذين يذهبون في هذا الإتجاه، يؤسسون لها من خارج الحقل التاريخي الإسلامي تماهياً مع واردات الفكر الغربي وتبعاته في محاولة لإسقاط المنظومة المفاهيمية لديه على واقعنا الإسلامي للقيام بنهضة فكرية. لهذا، فإنني أجد أن التراث الإسلامي يحتوي على مادة غزيرة للمثقف ما يُمَكِّنه من استلهامه بغية بناء مناخ معرفي يسلك سبل ذلك التراث.
وما أشير إليه هنا يستند إلى الكتب المصنفة في تبيان الفرق الإسلامية بالإضافة إلى الأجوبة والردود على (شبهات الخصوم) في الكتب ذات الطابع المذهبي الصارم.
في قراءة سريعة للكتب المذكورة، فإنها تحتوي على سرد دقيق للفرق الإسلامية التي تأسست في القرون الأولى للإسلام، وتكشف لنا هذه الكتب- رغم شدة الحقن المذهبية التي تنتاب أصحابها- عن دقة الملاحظة لديهم بالإضافة إلى أمانة النقل والشرح، حتى في الفرق المضادة لعقيدتهم.
وتدلنا الكتب الأخرى التي صنفناها في الإطار الثاني أنها كانت تحمل في طياتها لغة علمية راقية، فنجد فيها مناقشة علمية هادئة للعقائد المختلفة رغم النعوت والأوصاف المتبادلة والتهم المضادة، إلا أن الأدلة التي يسوقها مؤلفوها تنبع عن إحاطة ومعرفة ودقة.
فالتعددية الفكرية والعقائدية كانت موجودة على نحو صريح، وقلما تجد عصراًٍ من العصور لا توجد فيها هذه التيارات المتخالفة فيما بينها، ولسنا بحاجة لكثير من الأدلة على شرعية هذه التعددية بعد ذلك، فالمجتمعات الإسلامية لم تكن لتزدهر إلا بفضل هذا الفسيفساء المعرفي والثقافي لدى أبناء الحضارة الإسلامية.
إلا أن كلامنا لا يدور في الأساس حول شرعية التعددية من الناحية النظرية أو الدينية وإنما نقول بأن التعدد حاصل بالفعل وهو ما لا يمكننا أن نتجاهله إطلاقاً.
وإذا كنا نريد أن نقرأ الإسلام قراءة معمقة لمسألة التعددية، علينا أن نتعامل مع مستويين في فهمنا للخطاب الإسلامي.
المستوى الأول: الإسلام بما هو مرجعية عقائدية ناظمة وموجهة لخطوط التأصيل الفقهي والفلسفي والإجتماعي، ويتمثل بالنص القرآني أو السنني.
المستوى الثاني: الإسلام بما هو تجربة تاريخية تجري في الزمان والمكان، وهي بهذا المعنى تشكل مادة للتفكير والتأمل بغية كشف عناوين تواصلها مع المستوى الأول أو انقطاعها عنه. يؤدي الخلط أحياناً بين هذين المستويين إلى منزلقين خطيرين:
1- إضفاء القدسية من جهة على التجربة التاريخية، واعتبارها تتماثل وتتطابق مع المستوى الأول/النص.
2- التعامل مع المستوى الأول باعتباره بعداً تاريخياً فاقداً لقدسيته.
لهذا، فإن الموضوعية تقتضي التعامل مع كلا المستويين لإدراك مدى تطابق التجربة مع النص الديني أو الإنفصال عنه. وبهذا الأمر نكون قد دمجنا في رؤيتنا للإسلام حول التعددية المسار الزمني والمسار الديني ليشكِّلا مادة موحدة في قراءة هذه المسألة1
- 1. المصدر: جريدة النهار الأحد 11 أيلول 2005-09-19 السنة 73 العدد 22423، سماحة الشيخ عفيف النابلسي حفظه الله.