في يوم المبعث النبوي الشريف، هبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غار حراء وهو محمل بأعباء رسالةٍ عظيمة في مجتمع جاهلي، يعرف (صلى الله عليه وآله وسلم) مدى عناد ذلك المجتمع، ومدى الجهل المتفشي فيه. ولكن الله تعالى كلفه أن يقوم بهذه المهمة، وأعلمه أنها مهمةٌ ثقيلة: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ 1، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مميا ومستعداً لتحمل أعباء هذه الرسالة العظيمة.
نريد أن نتحدث عن موقف الناس تجاه البعثة النبوية في ذلك العصر، انطلاقاً من دراسة موقف المجتمعات تجاه الأفكار الجديدة الهادية.
عبر التاريخ كانت هناك أفكار هادية مفيدة تُطرح على المجتمعات البشرية من أحد مصدرين: إما من تطور عقل الإنسان وتجربته، وإما من الوحي وهو الشيء الرئيس. وغالباً ما كانت هذه الأفكار الهادية والجديدة تواجه في البداية إعراضاً وإنكاراً، وقل أن تجد دعوةً من دعوات الرسل والأنبياء أو المصلحين ووجهت في أيامها الأولى بالترحيب والاستقبال، ولكن بعد مدةٍ من الصمود والاستقامة والمواجهة قد تصل تلك الدعوة الإلهية أو تلك الأفكار الإصلاحية إلى مستوى من القبول والنجاح، وقد لا تصل.
وبهذه المناسبة ومن وحي المبعث النبوي الشريف ومعاناة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تبليغ الرسالة نسلط الضوء على طبيعة موقف المجتمعات من الأفكار الجديدة، حيث تنطلق المعارضة والتحفّظ غالباً من اللامبالاة.
فأكثر الناس لا يُبالون تجاه الدعوات والأفكار التي تُطرح في عصورهم ومجتمعاتهم، مهما كانت نوعية الفكرة والدعوة المطروحة سواءً على الصعيد الديني أو السياسي أو الاجتماعي، وقل أن تجد في بداية طرح الأفكار تجاوباً أو تفاعلاً، إذ أن أكثر الناس غير مبالين ولا يجدون أنفسهم معنيين بما يُطرح من حولهم.
البعض من الناس يتصورون أن مجرد طرح الفكرة لأي مشكلة عالقة في المجتمع من خلال المنابر، ستُعالج القضية وتنتهي المشكلة، ولذلك يطلبون من العالم أو الخطيب أو الكاتب أن يتحدث عن هذه المشكلة أو تلك، ويطرح هذا الموضوع أو ذاك، وقد يتصور من يطرح الموضوع أنه قد قام بواجبه ومسؤوليته بتحدثه عن الأمر، ولكن المسألة أعمق من ذلك بكثير، ولا يعني ذلك عدم جدوائية الطرح، ولكن المسألة بحاجة إلى وقفة تأمل لحالة اللامبالاة عند أكثرية الناس تجاه الأفكار التي تُطرح.
القرآن الكريم يعتبر حالة اللامبالاة بأنها غفلة، يقول تعالى: ﴿ … لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ 2. فهؤلاء مع امتلاكهم لعقولهم لكنهم لا يستخدمونها ليفقهوا بها ما يُطرح لهم من أفكار ودعوات جديدة، كما أنهم مع إبصارهم للأشياء لكنهم يفتقدون حالة التأمل فيما يدور ويجري حولهم، وأيضاً فهم مع استماعهم لهذه الدعوات لكنهم لا يهتمون بوعي ما يُطرح لهم، فهم ﴿ … كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ … ﴾ 2، ذلك لأن الأنعام إذا لم تكن تعي فلعدم وجود عقل عندها، ولكن ما عذر الناس الذين يمتلكون عقولاً لا يُفعّلونها ولا يستثمرونها في الاتجاه الصحيح؟ هؤلاء يعيشون حالة غفلة: ﴿ … أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ 2.
القسم الآخر من الناس بمجرد أن تُطرح أمامه فكرة جديدة فإنها تُلفت نظره، ويتفاعل معها بالدراسة والتحليل، فقد تكون الفكرة صحيحة وقد تكون باطلة.
وفي السيرة النبوية العطرة نجد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما بدأ بتبليغ رسالته وُوجه بالإعراض وعدم التجاوب من أكثرية الناس، وكانوا يتعمدون إظهار اللامبالاة، يقول تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ 3، وكان بعضهم يستقبل الزائرين لمكة ليُقنعهم بأن يضعوا قطناً في آذانهم حتى لا يسمعوا كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لتتجدد المعاناة التي تحملها نبي الله نوح (عليه السلام) من قومه: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴾ 4.
في مقابل هذه الحالة كان هناك أفراد تجاوزوا حالة اللامبالاة، ويتحدث التاريخ في سيرة الصحابة (رضي الله عنهم) عن أناسٍ من الأصحاب الذين بحثوا عن الدعوة كما كان من شأن سلمان الفارسي (رضي الله عنه)، وأبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) والذي لم يكن من سكان مكة إذ أن قبيلة غفار تعيش على طريق الشام، وكان شبابها معروفين بقطع الطرق، وبمجرد أن وصل خبر الدعوة لأبي ذر اهتم بالموضوع، وأرسل أخاً له يُقال له أنيس ليأتيه بالخبر، فذهب إلى مكة واستمع لكلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعاد إلى أخيه، فسأله ما سمعت يا أخي؟ قال: سمعت كلاماً يأخذ باللب، ويُذهل العقل، فيه أمرٌ بمعروف ونهيٌ عن منكر. قال له: وما هو؟ فلم يتمكن من أن يقرأ عليه كل الذي سمعه، فأصر أبو ذر أن يذهب بنفسه ليطلع مباشرة على الأمر، كانت الظروف في مكة صعبة، وكان لا يعرف من يسأله عن الأمر، مضى إلى الحرم الشريف واضجع فيه، فمر عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو غلام، فقال له: أرى الرجل نائماً هنا، كأن ليس لك عشيرة، ودعاه لضيافته. وسأله: ما الذي جاء بك إلى مكة؟ قال: سمعت أن هناك من يدعي أنه رسول. فقال الإمام علي (عليه السلام): على الخبير وقعت، والله إنه لنبي حقاً. قال: فأوصلني إليه. فجاء به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: أنشدني مما عندك. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): لست بشاعر، ولا أنشد الشعر، ولكنه كلام الله، وبدأ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرأ عليه آيات من القرآن الكريم، ويشرح له الإسلام، فانفتح قلب أبي ذر للإسلام وأسلم في مجلسه، وكان من أوائل من اسلموا.
يقول أبو ذر: سألني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أي القبائل أنت؟ قلت: من غفار. يقول: فنظر في وجهي متعجباً لما يعرف عن قبيلة غفار. فقال له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): اذهب إلى قبيلتك وتكتم عن قريش، قال: ولماذا أتكتم عن الحق؟ فكان أول صوتٍ يُعلن الإسلام في المسجد الحرام وفي شوارع مكة هو صوت أبي ذر الغفاري. وتحمل بذلك أذى كبيراً من قريش، إلا أن العباس بن عبد المطلب حذر قريشاً من قبيلة غفار لكي لا تتعرض قوافلهم للسرقة، وبذلك تركوه يمضي لقبيلته. فانطلق لقبيلته (غفار) ونشر دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأسلمت قبيلته، كما تحرك إلى القبيلة المجاورة وهي قبيلة (أسلم) وأسلمت، وبعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة جاء أبو ذر ومعه حشدٌ كبير من قبيلة (غفار) وقبيلة (أسلم).
القليل من الناس يكونون هكذا.
إن على الإنسان أن يفتش عن الحق، ويبحث عن الحقيقة، ولا ينبغي أن تحجزه عنها سحب الاعتراضات والإشاعات، فغالباً ما تواجه دعوات الحق والأفكار الجديدة الصحيحة بالمعارضة والرفض. وكما ينقل الشهيد الشيخ محمد المنتظري وهو من طليعة العلماء المجاهدين في الثورة الإسلامية في إيران، أنه كلما ذهب إلى مجتمع ورأى فيه أجواءً سلبية مناوئة لشخصية من الشخصيات، فإن ذلك يدفعه للانفتاح مباشرة على تلك الشخصية ومعرفة آرائها ومواقفها، وغالباً ما كان يجد أنها مخلصة تستهدف الإصلاح.
كما أن على ذوي الأفكار الجديدة أن يكونوا موضوعيين في توقعاتهم من مجتمعاتهم، فلا يتوهمون سرعة الإقبال والنجاح لآرائهم، فيصابون بالخيبة والإحباط، بل يتحلون بالصبر والاستقامة فذلك هو طريق الإصلاح والتغيير5.
- 1. القران الكريم: سورة المزمل (73)، الآية: 5، الصفحة: 574.
- 2. a. b. c. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 179، الصفحة: 174.
- 3. القران الكريم: سورة فصلت (41)، الآية: 26، الصفحة: 479.
- 4. القران الكريم: سورة نوح (71)، الآيات: 5 – 7، الصفحة: 570.
- 5. الموقع الرسمي لسماحة الشيخ حسن الصفار (حفظه الله) .