مقالات

دفع تهمة الضلالة عن الرسول(صلى الله عليه وآله) قراءة تحليلية في سورة الضحى

بقلم د. سيروان الجنابي

    ثمة خلاف طويل وجدل واسع في مسألة تملُّك الرسول محمد(صلى الله عليه وآله) لماهية العصمة؛ إذ وقف الأمر فيها بين مؤيدٍ لها ومثبتٍ وبين رافضٍ لها ومنكرٍ لأصلها؛ فمنهم من قرر العصمة له في لحظة تلقيه الوحي وابلاغه الى الناس فحسب، فالعصمة والحال هذه وقتية مرهونة بايصال وحي السماء الى البشرية لا غير،
            وفريق اخر نفى وجود العصمة البتة للرسول فهو غير معصوم في جميع احواله، ومذهب ثالث يرى ان العصمة تلتحق بالرسول بعد بعثته اما عصر ما قبل البعثة للرسول فهو مجرد فيه من العصمة بعيد عنها على حين رأى رابع بان الرسول معصوم منذ لحظة نزوله على الارض وحتى رفعه منها.
           ومن أجل تمحيص الحقيقة والسعي وراء استكشاف الحق واثبات العقيدة الأصل في هذا النطاق الفكري سنلجأ إلى قراءة عصمة الرسول محمد(صلى الله عليه وآله) على وفق المقررات الخطابية التي أثبتها النص القرآني نفسه؛ فإذا كان هذا النص المعجز يمثل العامل الحسم بين المتردد فيه والمقطوع بأمره وينظر إليه على أنَّه المنطق الفصل في تحديد المعتقد من انتفائه؛ فإنَّه يمكن القول إنَّ عملية إثبات عقيدة العصمة للرسول الأعظم من طيات النص المعجز؛ ستعد – والحال هذه- وثيقةً سماويةً قاطعةً وشهادةً إلهيةً حقّةً لا ترقى إليها شائبة أو يدنو منها تردد أو شك البتة.
            وتأسيساً على هذا المنطلق سيُقرأ نص سورة الضحى على وفق عامل الإثبات والتثبيت لعصمة الرسول والرد على الشُّبهات التي أثيرت على مسألة الإقرار بتلك العصمة وذلك فيما يخص نسبة (الضلالة) إليه تحديداً؛ لأنَّ هذه الشُّبهة تعد من أقوى التهم التي وجِّهت للرسول محمد(صلى الله عليه وآله) على وجه الإطلاق؛ إذ عَمَدَ معتنقو درء العصمة عن الرسول إلى اتباع حيثية التقاط دلالة ضلالة الرسول الكريم من سورة الضحى، وقراءتها على أنَّها إشارة تدل على ضعف القول بعصمته؛
             على حين أنَّ المنطق الذي سنُحَكِّمُهُ في هذا النطاق ينصُّ على إقرار هذه العصمة وذلك باتباع حيثية منهج تحليل الخطاب القرآني نفسه التي وردت فيه الشُّبهة على الرسول أو ما يُتَصوَّرُ بأنَّها شُبهة والرد على المعترض من ذات النص الـمُتَخَذِ وسيلة لنفي العصمة وبهذا سنقوم بعملية توظيف منهج القراءة المعكوسة لإثبات الغاية المنشودة.
              من هنا سينطلق هذا الجهد العلمي لتحقيق منجز منشود يسعى إلى ترسيخ مبدأ العصمة للرسول الأعظم لننفتح -بعد التأسيس لهذا المنجز- بالقول بعصمة الأنبياء والرسل جميعاً، أما داعي اختيار إثبات العصمة للرسول محمد(صلى الله عليه وآله) دون غيره فإنها تكمن في أمرين:
   الأول: إنَّ النبي محمد(صلى الله عليه وآله) يعد خاتم الأنبياء وأشرفهم فكان إقرار العصمة إليه دون غيره ابتداءً يعد من باب الأوْلى على وفق المنطق العقلي؛ فضلاً عن أنَّ الرسول الأعظم كان من أغزر الأنبياء شُبهة على عصمته لكثره الأحداث التي عاشها والمخاضات التي مرَّ بها في حياته الرسالية ولكثرة الأعداء الذين تساندوا على إيقاف إرادة السماء وإقصاء المعجز عمَّن آمنَ به.
   والثاني: يكمن في أنَّ إثبات العصمة لأي نبي ستعدُّ ـ بالضرورة ـ إثباتاً للعصمة لسائر الأنبياء من دون استثناء لأنَّهم يقفون من منظور السماء على مسافة واحدة من حيث المكانة والتعامل والتسديد الإلهي؛ فما يجري على الواحد يجري على الكل بحكم تساوي مناط التكليف واتفاق نطاق المهمة والغاية المراد تحقيقها.

قراءة دلالية في نسبة الضلالة إلى الرسول(ص)

          إذا كان السائد في منطق مصنفات علوم القرآن والمتسالم عليه في مدونات التفسير القرآني إنَّ سورة الضحى قد نزلت تسلية لنفس الرسول(صلى الله عليه وآله) فان هذا يعني باللزوم أنَّ كلَّ آية فيها قد بنيت صياغة ومضمونا على أساس توجيه الخطاب للرسول(صلى الله عليه وآله) نفسه؛
             إذ روي في داعي نزول هذه السورة الكريمة بان مرد النزول يؤول إلى أن امرأة من المشركين أقبلت على الرسول(صلى الله عليه وآله) بعد أنْ أُرجئ عنه الوحي مدةً ليست بالقصيرة، فقالت له: يا محمد؛ ما أرى شيطانَكَ إلاّ قد قلاك(1)، فنستشف من هذه الرواية دلالة تؤكد أنَّ الآيات مُساقة للردِّ على هذا الزعم ولتوثيق اطمئنان الرسول بمساندة السماء له من جهة وأحقية دعواه من جهة أخرى.
             إذا كانت النصوص في هذا الموضع من التعبير القرآني كلها تتمحور على مُخطابة الرسول تنصيصاً من أجل إشاعة سمة السلامة والراحة في نفسه فإنَّه من المحال بمكان أنْ نرتضي مقولة نسبة الضلالة إلى الرسول في قوله تعالى من سورة الضحى (وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى)(2) بغاية إخراجه من نطاق العصمة ووصمه بجريرة الكفر التي تعد أكبر مثلبة يمكن أنْ تُلصَق بإنسان؛
            حيث اتفق بعض المفسرين على أنَّ القول بالضلالة في هذا الموضع هو تنصيص على كفر الرسول قبل البعثة؛ إذ يعتقدون بـ(أنَّه كان كافراً في أول الأمر، ثم هداه اللهُ وجعله نبياً)(3)،
             ومن الذين اعتنقوا هذا المنحى الكلبي إذ يقول: ((وجدك ضالاً) يعني كافراً في قوم ضلال فهداك للتوحيد)(4) وقد وافقه على هذا السَّدي بلا تردد أو إعادة نظر(5).
              إنَّ هذا التوجيه التفسيري لمفردة (الضلالة) في الآية الكريمة يمكن أن يُقرَأ بحيثية تحليلة أخرى إذ نجد أنَّ دلالة الضلالة في هذا الموطن لا يراد منها دلالة الكفر كما حَسَبَ بعضُ المفسرينَ مما يفضي إلى القول بأنَّ دلالة سياق الآية ههنا يحمل دلالة التوبيخ؛ بل نرى أنَّ دلالة السياق المهيمنة على هذا النص القرآني إنّما هي المدح للرسول وهذا هو دأبُ مضامين الآيات جميعاً في هذه السورة؛
              ويعضد ذلك ما نُقِل عن الإمام الرضا(عليه السلام)؛ من أنَّ دلالة الضلالة في هذه الآية تعني (ضالاً في قوم لا يعرِفونَ فَضلَكَ؛ فهداهم الله إليك)(6) إنَّ إعادة النظر في الآية على وفق مقولة الإمام يقدح في الذهن ملمحا دلاليا يمكن الاستناد عليه في تبرئة الرسول من تهمة الكفر؛ ذلك بأنَّ لفظة (ضالاً) في الآية قد أعطت معنى اسم المفعول لا اسم الفاعل، وان هذه اللفظة مما تشترك فيها الدلالتان:
            دلالة المفعول ودلالة الفاعل، فتقول: رأيتُ رجلاً ضالاً عن الطريق؛ أي وقع عليه الضلال، فهو اسم مفعول، وتقول: رأيتُ رجلاً ضالاً للناس؛ أي يقوم بضلالة الناس فهو مُضِلٌ، وبهذا ينكشف المعنى الذي يدل على أن قوم الرسول هم الضالون حقيقة، وان الرسول هو المُضَيَّع فيهم، فهداهم الله إليه فكان وحيداً لا أحد معه على دينه ولولا الله تعالى ما التجأ إليه الخلق مهتدين بالغاية؛ وهذا القول يؤدي الى تقوية معنى إكرامه تعالى للرسول(صلى الله عليه وآله)، وبلسمة نفسه وفي هذا مدح واضح له صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.
             ويؤيد دلالة تنزيه الرسول ومدحه في هذه الآية سمةٌ خطابيةٌ غايةٌ في الأهمية ألا وهي سمة الحذف في الآية؛ إذ نجد أنَّ الفعل (هدى) قد ورد محذوف المتعلق مما يفضي إلى عدم نسبته إلى الرسول الأعظم تحديداً؛ ذلك بان الحذف يورث الإبهام الذي يؤول إلى القول بوجود الإطلاق في النص؛ وتوظيف دلالة الإطلاق في حذف متعلق الفعل (هدى) هو الأنسب في نطاق إثبات نسبة النزاهة للرسول والأرسخ في بيان براءته(صلى الله عليه وآله)؛
          ذلك بأنه سبحانه لو كان قاصداً من الضلالة الرسول نفسه وانه قد هداه إلى رشده لأثبت كاف الخطاب في قوله (هدى) فتغدو العبارة (ووجدك ضالا فهداك)؛ بيد أنَّ وقوع الحذف دلَّ على إبعاد هذه الشُّبهة عن الرسول وهذا يسوغ القول بان المراد هو ضلالة الناس عنه وهداية الله إليهم به؛ بل نجد أنَّ الحذف لم يتوقف عند هذا الحد وإنما نلحظه قد امتد على سائر الآيات الأخرى في السورة،
            وقد سيق كله موظفاً من اجل دفع نسبة الإساءة إلى الرسول من كونه ضالا حيث ترد الآيات الثلاث ابتداءً وهي قوله تعالى (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى)(7) متضافرةً لتدعم كل منها الأخرى، فتشكل روافد دلالية تصبُّ في الحيز الدلالي الأكبر الذي يهيمن على السورة كلها باستحكام وهو تنزيه الرسول(صلى الله عليه وآله) وتوثيق العصمة له باستعمال حيثية مدحه وتسلية نفسه، ذلك بان تسديد الله للرسول يبعده عن الذنب مطلقا فمازال الرسول معتقدا اعتقادا راسخا بالله تعالى وبرسالته فان هذا يمنحه الداعي إلى العصمة ألا هو الحكمة المانعة من المعصية بالضرورة.
           فعند التأمل نجد أنَّ الخطاب القرآني في هذه الآيات الثلاث يُستَهلُ باقتران أسلوب الاستفهام بالنفي، والاستفهام في هذا المقام لا يتضمن إشارة إلى جهل المخاطب أو أنَّه في صدد انتظار الإجابة؛ ذلك بأنَّ الحيثية الاستفهامية لم تُوظَّف في هذا النص لأداء الدلالة الحقيقية التي وُضِعَتْ لها أساساً في اللغة،
           فنجدها قد انزاحت عن دلالة الأصل كما هي الحال للنفي الذي يليها، إذ أُفرِغ من محتواه الدلالي الأساس أيضاً، وان وروده مقترناً بالاستفهام هو الذي سبب إقصاء كل أسلوب عن وظيفته، وباقترانهما معاً وُلِدَتْ دلالةٌ جديدةٌ هي الاستفهامُ التقريري الذي حَوَّل النفي إلى الإثبات والاستفهام إلى علم، والدليل أنَّه عَطَفَ نسقاً على هذه الآية فعلين مثبتين من غير استفهام،
         وبهذا نلحظ أنَّ نمطية الأسلوب اللغوي لهذا التركيب ابلغ تأثيراً في نفس الرسول(صلى الله عليه وآله) وأمثل حضوراً في ذهنه وأكثر إيماناً بأنَّه تعالى سيعضده على سبيل الدوام وسيقلده الحكمة لشدة إيمانه؛ لأنَّ مقتضى التركيب قد جاء ليكشف عن جملة من الأمور لا لإنكار الرسول(صلى الله عليه وآله) لها؛
           بل لأنَّها تمثل تجارب حياتية ملموسة عنده(صلى الله عليه وآله) فكأنَّه سبحانه يبتغي منه تقريراً بذلك ليتأكد في نفسه الشريفة أنَّ الله تعالى هو السند والعضد له في الأزمنة كافة، فجاءت الآيات هذه برمَّتها صفة تأكيدية لتُتابع الآيات السابقة عليهن وترسخ ما دارت عليه من معنى وسيظهر أنَّ الآيات اللاحقة تسير بالمسار نفسه.
            فحينما نقف على المحذوف في نهاية كل من الآيات الثلاث المذكورة وهو المفعول به للفعل (آوى، وهدى، وأغنى) نكتشف أنَّ علَّة الحذف في هذه الأفعال مُنشأة على دعامتين:
   الأولى (نفسية) لأنَّ في الحذف إكراماً لنفس الرسول(صلى الله عليه وآله) بعدم ذكر التفضل عليه صراحةً من قِبله تعالى؛ وذلك فيما لو سلَّمنا بوقوع هذه الأفعال على الرسول تحديداً باستثناء الفعل (هدى)؛
            إذ لا يمكن البتة أنْ يُذكِّرَ اللهُ سبحانه رسولَهُ(صلى الله عليه وآله) بأنَّه كان كافراً ثم هداه تعالى إلى الإيمان لأنَّ هذا يتنافى والقول بتفضيله وإكرامه وتسلية نفسه الزكية؛ ذلك بانَّ السائد في الخطاب التكريمي هو اتسام الكلام بسمة إظهار الفضل الذي يستحقه من المتكلم من جهة وعدم المساس بالـمُتحدِّث عنه كإشعاره بالتقصير أو المنقصة من جهة أخرى وإلا خَرَجََ الخطاب من نطاق التكريم ودَخَلَ في حيز التوبيخ والتنكيل؛
           بهذا نقول إنَّ الحال في الآية لا يوافق القول بدلالة الكفر للفظة (الضلالة) لأنَّ هذا القول أدخل في اتسام الخطاب بدلالة التوبيخ منه إلى القول باتسامه بدلالة التكريم والتفضيل والأفضلية له على غيره(صلى الله عليه وآله).
   والثانية (إدراكية) لإثارة العقل بحثاً عن الغاية المرادة من معنى الحذف، فقد يكون المقصود الرسول(صلى الله عليه وآله) في الفعلينِ (آوى، وأغنى)، وقد لا يُراد الرسول البتة؛ بل المراد أنَّ اللهَ آوى الناس وهداهم وأغناهم بك بناءً على مقولة الإطلاق من الحذف وهي الأوْلى اتفاقاً والدلالة السياقية المؤسَس عليها النص؛
            فقد أُثر عن الإمام الرضا(عليه السلام) أنَّه قال في معنى لفظة (اليتيم) بأنَّها (تعني فرداً لا مثل لك في المخلوقين فآوى الناس إليك)(8) وأغناهم بك لأنَّك تمثل الأنموذج الأسمى لما تبتغيه السماء من الإنسانية عقلاً ويقيناً وسلوكاً وبهذا فإنَّ الله تعالى يكفل هذه المضامين الثلاثة لمن أحبكَ ونهجَ سبيلك.
              وعند النظر المتأمُّل في النصوص نجد ثمة واصلاً دلالياً معيناً بينهما من جهة وواصلاً عاماً يصلهما بصدارة السورة من جهة أخرى، فأما ما بينهما فنلحظ أنَّ اليتيم له حاجة إلى من يكفله إعانة وتربية، وأنَّ الضال يستهدي طالباً المساعدة للوصول إلى الطريق الصواب، وأنَّ العائل يفتقر إلى معين يحفظ ماء وجهه ويكفيه حاجته؛
              وبهذا نرى أنَّ فكرة هذه النصوص تتمحور على معنى مؤداه طلب الإعانة من الـمُقتَدِر وحفظ نفس الإنسان من الذلة وإرشاده إلى الهداية، وهذا ما يريد سبحانه إقراره لرسوله(صلى الله عليه وآله)، فإذا ما اتَّصف الرسول(صلى الله عليه وآله) بهذه الصفات الخلقية فلا يكون إلا حكيماً لأنَّ هذا النمط من الصفات الخلقية إنّما تصدر من الحكيم الذي يتَّسم بالعصمة ولا يؤتاها إلا ذو حظ عظيم.
              يزاد على هذا أنَّ المعطى المعجمي للفظة (الضلالة) يسند الإقرار بمقولة الإمام الرضا(عليه السلام) التي أسندت الضلالة إلى الناس وان هذا المضمون هو الأحرى بالإتباع؛ إذ ورد في بطون المعجم العربي أنَّ من دلالات لفظة (الضلالة) هي الخفاء والتواري والغيبة عن الأعين(9)، يقول الخليل:
             (وماءٌ ضَلَلٌ: يكون تحت الصَّخْرَةِ لا تُصيبُه الشمس)(10)، ويقال (ضلَّ الشيءُ إذا خفيَ وغابَ عن الأعين)(11)، بهذا يكون (الإنسان الضال هو الإنسان المخفي ذكره، المنسي اسمه، لا يعرفه إلاّ القليل من الناس، ولا يهتدي كثير منهم إليه، ولو كان هذا هو المقصود، يكون معناه أنَّه سبحانه رفع ذكره وعرفه بين الناس عندما كان خاملاً ذكره منسياً اسمه)(12)
              وهذا هو معنى الضلالة المنسوب إلى الرسول(صلى الله عليه وآله) في الآية؛ إذ المراد منه ليس ضلالة الرسول بمعنى عدم الهداية؛ بل المبتغى هو نسبة الضلالة إلى الرسول(صلى الله عليه وآله) من حيث لا يعرفه الناس ولم يهتدوا إليه إلا بتعريف الله إليه، فضلالة الرسول هو عدم معرفته من الناس وضلالة الناس هي عدم اهتدائهم إلى الرسول(صلى الله عليه وآله) نفسه؛
               من هنا تكون الضلالة (عدم الاهتداء) صادرة منهم لا من الرسول(صلى الله عليه وآله)، والرسول ضالٌّ فيهم من حيث عدم معرفتهم له، وسندُ هذه الوجهة الدلالية هو قوله تعالى (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)(13) فرفع ذكر الرسول(صلى الله عليه وآله) هو هداية الناس إليه من بعد ما كانوا ضالين عنه؛ (وعلى هذا فالمقصود من (الهداية) هو هداية الناس إليه لا هدايته)(14) مطلقاً.
             من هنا نستدل على أنَّ حيثية صياغة النسيج الخطابي للنص القرآني المزمع اتهام الرسول فيه بالضلالة تدل دلالة بيِّنة على أنَّ الرسول بريء من هذا الاتهام سواء أكانت تلك الحيثية الخطابية تكمن في الطريقة البارعة لاستعمال المفردة أم في كيفية توظيف المقرر النحوي أو في الهيأة التركيبية التي يُساق عليها النص؛ ففي كلِّ وجهٍ صياغي لخطاب النص ثمة مكمن إسنادي يوصِل المتلقي إلى قناعة تامة للقول بعصمة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) بلا تردد أو شك في ذلك.
             وبهذا نُرجِّحُ حمل دلالة لفظة (الضلالة) في الآية على اسم المفعول دون اسم الفاعل ليكون المراد أنَّ الناس هي التي ضلَّت عن الرسول تأسيساً على مقولة الإمام الرضا(عليه السلام) إذ إنَّ توجيهه الدلالي هذا يعد تبرئة للرسول(صلى الله عليه وآله) من الضلالة البتة ولا ضلالة في الرسول(صلى الله عليه وآله) البتة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر: القرطبي: تفسير القرطبي:20 /93، والزمخشري: الكشاف:4/771، والحائري: مقتنيات الدرر:12/163، ومغنية: الكاشف: 7 / 577
(2) سورة الضحى: 7. 
(3) الرازي: التفسير الكبير: 31/195، والطبري: تفسير الطبري: 30/232، والقرطبي: تفسير القرطبي:20/99.
(4) ينظر:الرازي: التفسير الكبير: 31/195.
(5) ينظر: م.ن: 31/195. 
(6) الفيض الكاشاني: الصافي:5/341، وينظر: الرازي: التفسير الكبير: 31/196، القرطبي: تفسير القرطبي: 20 / 99 .
(7) سورة الضحى:6 -8 .
(8) القرطبي: تفسير القرطبي: 20/ 97 .
(9) ينظر: الرازي: مختار الصحاح: 403.
(10) الفراهيدي: العين:7/10. 
(11) جعفر السبحاني: عصمة الأنبياء في القرآن الكريم: 276. 
(12) م.ن: 276. 
(13) سورة الانشراح: 1- 4. 
(14) جعفر السبحاني: عصمة الأنبياء في القرآن الكريم: 276.

المصدر:موقع مؤسسة الحكمة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى