مقالات

بين عصمة النبيِّ (ص) وموقف قريش الرافض لسُنَّته (من مصادر مدرسة الخلفاء)

بسم اللّٰه الرَّحمٰن الرَّحيم

بقلم: زكريَّا بركات
19 أغسطس 2022


روى إمامُ أهل السنَّة أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) في المُسند (برقم 6510 بتحقيق شعيب الأرنؤوط) ، بسنده عن عبد الله بن عمر، قال: “كنتُ أكتبُ كلَّ شيءٍ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنَّك تكتُبُ كلَّ شيءٍ تسمعه من رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم، ورسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم بشرٌ يتكلَّم في الغضب والرِّضا، فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم؟ فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منِّي إلَّا حقٌّ”. انتهى. وقال المحقِّق: إسناده صحيح.

ورواه الدارمي (ت 255 هـ) في السنن (برقم 501 بتحقيق حسين سليم أسد) ، وقال المحقِّق: إسناده صحيح.

ورواه أبو داود (ت 275 هـ) في السنن (برقم 3648 دار الكتاب العربي) . وهو برقم (3646) في صحيح وضعيف سنن أبي داود للألباني، وقال الألباني: صحيح. وأورده في السلسلة الصحيحة برقم 1532 .

ولفظ الدارمي وأبي داود: “فأوْمَأَ بإصبعه إلى فِيهِ فقال: اكْتُبْ فَوَالَّذى نفسى بيدِه ما يخرجُ منهُ إلَّا حقٌّ”.

وفي مسند أحمد 11 : 523 برقم 6930 ، عن عبد الله بن عمرو، قال: قلتُ: يا رسول الله، أكتب ما أسمع منك؟ قال: نعم، قلتُ: في الرِّضا والسَّخط؟ قال: نعم، فإنَّه لا ينبغي لي أن أقول في ذلك إلَّا حقًّا. قال شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره.

أقول: فقريش كانت تُشكِّك في عصمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على أساس أنَّ الرِّضا والغضب يمكن أن يُؤثِّرا على صحَّة كلام رسول الله كما يؤثِّران على سائر البشر، إلَّا أنَّ رسول الله أكَّد خطأ قريش في ما قالت، وعبارة “فما يخرج منِّي” أو “فما يخرج منه” ـ أي من فمه الشريف ـ إلَّا حقٌّ، صريحةٌ في انتفاء التأثير السلبي للرِّضا والغضب على كلام رسول الله.. ممَّا يعني أنَّه ليس كسائر البشر في التأثُّر بالعواطف، ولا يشوب كلامَهُ أيُّ باطل أو خلل، بل هو حقٌّ كلُّه في الحالات كلِّها.. وهو معنى العصمة.

وهل توقَّفت قريشٌ عند هذه النصيحة الباطلة التي صدرت منها وراجعت حساباتها؟ أم كانت لها مواقف أُخرى سلبيَّة من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

مراجعة مصادر التُّراث الإسلاميِّ تؤدِّي بنا إلى معرفة المزيد من المواقف السلبيَّة..

فمن ذلك ما رووه عن الخليفة أبي بكر من أنَّه جمع أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأحرقها..! انظر: تذكرة الحُفّاظ للذهبي 1 : 10 ـ 11 (ط: دار الكتب العلمية) ، وأورده صاحب كنز العمال 10 : 285 برقم (29460) عن مسند أبي بكر الصديق لابن كثير.

كما رووا أنَّه نهى النَّاس عن رواية الحديث قائلاً: “إنَّكم تُحدِّثون عن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدُّ اختلافاً، فلا تُحدِّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلُّوا حلاله وحرموا حرامه”. أورده الذهبي في كتاب تذكرة الحفاظ 1 : 9 (ط: دار الكتب العلمية) .

كما رووا عن الخليفة عمر أنَّه طلب من الناس أن يجمعوا له ما بحوزتهم من الأحاديث الشريفة فأحرقها جميعاً..! انظر: الطبقات لابن سعد 5 : 188 (ط: دار صادر) ، و”سير أعلام النبلاء” للذهبي 9 : 63 (ط: مؤسسة الرسالة) .

كما رووا أنَّه أمر الصحابة بالتقليل من الرواية عن رسول الله (ص) . انظر: سنن ابن ماجة 1 : 12 برقم 28 ، والمعجم الأوسط للطبراني 6 : 164 . وقال الألباني: صحيح. انتهى. ويُفهم من النصوص الآتية أنه لم يكن أمراً بالتقليل، بل كان حظراً كاملاً ومنعاً شاملاً، فتدبَّرْ جيِّداً.

ورووا عن الخليفة عمر أنَّه استنكر على ابن مسعود وأبي الدرداء وأبي ذر تحديثهم عن رسول الله (ص) ، قائلاً لهم: ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم؟! وقيل إنه فرض عليهم الإقامة الجبريَّة بالمدينة لئلَّا يتسنَّى لهم نشرُ الحديث الشريف..! انظر: المستدرك للحاكم 1 : 193 برقم 374 و 375 ، وصحَّحه الحاكم ووافقه الذهبي في التلخيص. وفي لفظ آخر: ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله؟! انظر: المُصنَّف لابن أبي شيبة 6 : 201 ، والطبقات لابن سعد 2 : 336 ، وكنز العمال 10 : 293 .

وفي سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي 4 : 23 (ط: مؤسسة الرسالة) عن الخليفة عمر أنه منع أبا هريرة وكعباً من التحديث، ولفظ الرواية: لتترُكَنَّ الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم أو لأُلحقنَّك بأرض دوس. وقال لكعب: لتترُكَنَّ الحديث، أو لأُلحقنَّك بأرض القردة. انتهى. قال المحقِّق شعيب الأرنؤوط: هذا إسناد صحيح.

ثم قال الحافظ الذهبي في الموضع نفسه عن عمر: “زجر غير واحد من الصحابة عن بثِّ الحديث; وهذا مذهب لعمر ولغيره”. انتهى.

وفي سير أعلام النبلاء 4 : 25 (ط: مؤسسة الرسالة) عن أبي هريرة، قال: ما كُنَّا نستطيع أن نقول: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) حتَّى قُبض عُمر رضي الله عنه، كُنَّا نخاف السِّياطَ”.

وفي كنز العمال 10 : 292 برقم (29476) عن كتاب العلم لأبي خيثمة والعلم لابن عبد البر، أنَّ الخليفة عمر أرسل إلى البلدان مرسوماً يأمر فيه كلَّ من كان عنده حديثٌ مكتوب أن يمحوه، قائلاً: “من كان عنده شيءٌ من ذلك فَلْيَمْحُهُ”.

وبعد هذا التشدُّد ضدَّ كتابة الحديث الشريف والتحديث به في زمن الخليفتين أبي بكر وعمر، والذي يُفهم ـ بوضوح ـ أنه كان منعاً مطلقاً عن رواية السنَّة النبويَّة الشريفة والاحتفاظ بالمكتوب منها، روُي أنَّ الخليفة عثمان بن عفان سار على نفس النهج قائلاً في خطابه على المنبر: “لا يَحِلُّ لأحدٍ يروي حديثاً لم يُسمَعْ به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر”. انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 2 : 336 .

إلى غير ذلك من النصوص والمرويَّات في هذا المجال..

وينبغي أن نتساءل عن علاقة هذا السياق من النصوص بما رُوي من معارضة عمر بن الخطاب ومن وافقه لكتابة رسول الله (ص) ذلك الكتاب الذي يعصم الأمَّة من الضلال، وهو ما يعبَّر عنه برزيَّة ـ أو رزيئة ـ الخميس، والتي كان ابن عبَّاس يبكي لأجلها ويذرف الدموع حتى يبل الحصى (انظر على سبيل المثال: صحيح مسلم برقم 1637 وغيره) .. فهل كانت تلك الممانعة شفقةً من عمر ومن وافقه على حال رسول الله في المرض كما قال بعض علماء مدرسة الخلفاء؟ أم كان ذلك المنعُ جُزءاً من مشروع قريش للتشكيك في عصمة رسول الله والحيلولة دون انتشار حديثه كما تدلُّ عليه العديد من القرائن والنصوص ومنها التعبير بـ “أهجر” و ما شابه ذلك في روايات رزيَّة الخميس؟ نترك هذا للباحث ليكتشف الحقيقة بنفسه. والله ولي التوفيق.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى