مقالات

التربية والتعليم في الإسلام

يدور بحثنا حول التربية والتعليم في الإسلام، هذا الفرع الذي يهتم ببناء الإنسان. إن أيّ مدرسة أو مذهب يمتلك أهدافاً محدّدةً وتعاليمَ شاملة – وبتعبير آخر يحتوي على الأنظمة الحقوقية والاقتصادية والسياسية – لا يمكن أن يفتقدَ النظامَ التربوي والتعليمي الخاص. والمدرسة التي تريد أن تطرح للناس مشروعاً أخلاقياً واقتصادياً وسياسياً إنّما يكون غاية ذلك الأمر لأجل الإنسان سواء كان فرداً أم مجتمعاً، وهذا بحد ذاته قضية يجب أن نبحث بشأنها في هذا المقام.

فإذا كان الهدف هو المجتمع فلا يمكن الاستغناء عن الأفراد الذين بواسطتهم تتحقّق المشاريع. وهؤلاء ينبغي أن يخضعوا لتربية وتعليم معين بحيث يقدرون على تنفيذ تلك المشاريع. وكذلك إذا كان الهدف هو الفرد فلا بدّ من وجود التربية والتعليم أيضاً. وفي الإسلام، أصالة الفرد كأصالة المجتمع محفوظة، ولهذا يوجد برنامج ومشروع لبناء الفرد سواء كان ذلك مقدمة لبناء المجتمع أو أنّه هدف بحدّ ذاته.

ومن هنا يلزم أن يلزم أن نتعرف على أصول التربية والتعليم في الإسلام. وبدايةً: هل أولى الإسلام هذه المسألة اهتماماً أم لا؟ وهذه قضية العلم التي طرحت منذ القديم بين العلماء فيما يتعلّق بأصل المطلب الذي يطرحه الإسلام أو بالنسبة لخصائص ذلك العلم الذي يدعو إليه. وقد بحث الغزالي والفيض الكاشاني وآخرون هذا الموضوع. ومن جانب آخر عندما ننظر إلى التعاليم الأخلاقية في الإسلام وهي جميعاً تعاليم تربية الإنسان، يبرز سؤال حول ذلك الإنسان النموذج والمثال الذي يريده الإسلام. كيف ينبغي أن يكون؟ وهنا توجد مسائل أخرى ترتبط بكيفية التطبيق فالأهداف محددة، ولكن ما هي الطريقة والمنهج اللذان ينبغي الاستفادة منهما في هذا المجال؟ وإلى أيّ درجة تلحظ التعاليم الإسلامية المسألة الروحية؟ وكمثال: في مجال تعليم وتربية الطفل ماذا وصلنا من تعاليم؟ وهذا التعاليم إلى أيّ مدى تلحظ الواقع والمسائل المعنوية؟ إضافة إلينا نحن هل كنا نطبق تلك التعاليم أم لا وكذلك اليوم إلى أي مدى نفعل ذلك.

تربية العقل

المسألة الأولى التي يجب بحثها هي مسألة تربية العقل والفكر. وهنا يوجد لدينا مسألتان الأولى تربية العقل، والثانية مسألة العلم.
في التعليم يقوم المتعلم بالأخذ والتلقي فقط ويكون دماغه بمنزلة المستودع تصب فيه سلسلة من المعلومات. أما في التربية، فلا يكفي أن يكون هذا هو الهدف. ولهذا يعد اليوم من النقص والخطأ أن نعتبر ذِهْنَ المتعلم كحوض الماء الذي يصب فيه الماء وحسب.

ينبغي أن يكون هدف المعلم أعلى من ذلك وهو أن يربي القوة الفكرية لدى المتعلم ويمنحها استقلالية وقوة ابتكار، أي أن عمل المعلم في الواقع يكون كالشعلة. يوجد فرق بين الفرن الذي تُحضرون ناره من الخارج فيصبح حامياً وبين الفرن الذي توجد فيه الأخشاب والقش، فتحضرون شعلة من الخارج وتضعونها على الأخشاب لتشعل شيئاً فشيئاً حتى تصبح ناراً. ويبدو أن ما يُبحث بشأن العقل والتعقل –مقابل العلم والتعلم– إنّما يعود إلى حال الرشد العقلي والاستقلال الفكري بمعنى قوة الاستنباط عند الإنسان.

نوعان من العلم

يوجد كلمة لأمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة (كانت لفترات تلفت نظري وقد جمعت لها شواهد عديدة) حيث يقول عليه السلام: العلم نوعان (وفي بعض النسخ: العقل عقلان) علم مطبوع وعلم مسموع ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع.
العلم المطبوع هو ذلك العلم الذي ينبع من نظرة الإنسان وطبيعته ولا يتعلمه الإنسان من غيره وهو ما يمكن تسميته بقوة الإبداع.
وأنتم ربما لاحظتم هذا الأمر: فالذي ليس لديه علم مطبوع غالباً ما يكون منشأ ذلك عنده سوء التعليم والتربية وليس عدم الاستعداد. فلم يكن يخضع لتربية وتعليم يحركان تلك القدرة المطبوعة فيه وينميانها.

النظام التعليمي القديم وتربية العقل

لقد كان نظامنا التعليمي القديم في الأغلب هكذا. فأنتم ترون بعض الناس مثل مسجلة الصوت (أكان ذلك بسبب نقص الاستعداد أو التعليم والتربية). فأحدهم يكون قد درس كتاباً وعمل عليه كثيراً ودقّق فيه حافظاً فقراته واحدة واحدة مع الحواشي والتعليقات. فإذا أصبح أستاذاً وأراد أن يشرح ذلك الكتاب فإنّه لن يقدم أكثر مما تعلمه وحفظه. وأي سؤال خارج عن هذا النطاق لا يقدر على الإجابة عنه فيقف عاجزاً عن الإتيان بالجديد. فمعلوماته هي تلك المسموعات.
بل إنّني رأيت أفراداً يحكمون خلال ما تعلموه. ولهذا فإنّنا نشاهد أحدهم عالماً ولكن عقله جاهل. فهو عالم لأنّه تعلم كثيراً ومعلوماته كثيرة، ولكن إذا طرحتم عليه مسألة خارج حدود معلوماته تجدونه لا يختلف عن العوام بشيء.

المنجم والسلطان

قصة معروفة (وهي غير واقعية) يُروى فيها أنّ منجماً كان يعمل في بلاط أحد السلاطين ويحصل على راتب جيد. أراد أن ينقل مهنته إلى ابنه فعلّمه لكي يحصل على منصبه من بعده.
أراد السلطان اختباره، فوضع في يده بيضة وسأله: هل يمكنك أن تعرف ما في يدي؟ حاول الابن كثيراً ولكن لم يستطع. فقال السلطان: قلبه أصفر ويحيط به البياض. فكر الابن ثم قال: مطحنة وضع فيها الجزر الأصفر. فانزعج السلطان كثيراً وطلب إحضار والده. لما حضر سأله السلطان: أي علم هذا الذي علمته إياه؟! قال المنجم: لقد علمته جيداً ولكن لا عقل له.
فأوّل كلامه من علمه ولكن آخره صدر بدون عقل. فعقله لم يدرك أن المطحنة لا يمكن أن تدخل في يد إنسان. وهذا ما يتطلب حكم العقل.

وقصة أخرى معروفة سمعتها من عدّة أشخاص. يقال إنّ أجنبياً التقى ذات يوم بأحد القرويين. وتحادث معه فوجده يجيب بطريقة دقيقة وعالية. فسأله: من أين تعلمت هذا؟ قال: “نحن لأنّنا لم نتعلم فإنّنا نفكر”. وهذه الجملة ذات معانٍ عظيمة فالفكر أفضل كثيراً من العلم.
المطلب الأساسي هو ضرورة وجود الأفراد والمجتمع الفكري والعقلاني الذي يمتلك قوة التجزئة والتحليل في المسائل. فوظيفة المعلم في التعليم والتربية في المدارس أعلى من أن يلقن الطلاب المعلومات، وإنما يجب أن يربي فيهم القدرة على التحليل والتجزئة. فكثرة المعلومات تجعل عقل الطالب راكداً.

من بين العلماء، أفراد درسوا كثيراً عن أساتذة، وأنا لا أعتقد بهم أبداً. والسبب في ذلك وما يفتخرون به هو أنّهم درسوا كثيراً. فيقال مثلاً: “فلان درس عند المرحوم النائيني ثلاثين سنة، أو درس عشرين سنة متوالية عند السيد ضياء”.
العالم الذي يقضي من عمره ثلاثين سنة أو خمساً وعشرين سنة في محضر هذا الأستاذ أو ذاك الأستاذ، هل يبقى لديه مجال للتفكير، إنّه دائم التلقّي، كلّ طاقته يصرفها في الأخذ، فلم يبقَ لديه شيء لكي يوصل مطلباً إلى قدرته.

الشبه ما بين الدماغ والمعدة

دماغ الإنسان يشبه كثيراً معدته. فالمعدة يجب أن تحصل على الغذاء من الخارج بقدر معين ومن خلال الإفرازات التي تصنعها على الغذاء تحوله إلى مواد مفيدة للجسم. ولذلك يجب أن يبقى للمعدة متسع بحيث تقدر على تحريك الغذاء وهضمه. إذ المعدةُ التي لا تتوقف عن الأخذ يَصِلُ بها الأمرُ إلى درجة لا تقدر معها على هضم الغذاء وذلك لشدّة الامتلاء.
ودماغ الإنسان يجري عليه هذا الأمر قطعاً. ففي التربية والتعليم يجب أن نترك مجالاً للطالب لكي يفكر، بل ونحثّه على هذا.

ليس الملاك كثرة الدراسة

نحن نشاهد من بين أساتذتنا علماء، مبدعين لم يحضروا مجالس الدرس كثيراً. فالشيخ الأنصاري أحد أبرز الفقهاء المبدعين في القرنين الأخيرين، كان بالقياس إلى العلماء الحاليين الأقل حضوراً لمجالس الدراسة، أي أن مدة دراسته كانت قليلة جداً. فعندما كان طالباً ذهب إلى النجف حيث درس مدة قليلة ثم انطلق في رحلته العلمية بنفسه يتقلب على أيدي أساتذة عدة فسافر إلى مشهد بقي مدة ولم ترق له فجاء إلى طهران لم يمكث فيها إلاّ قليلاً. ذهب إلى أصفهان حيث بقي مدة أطول درس على يد السيد محمد باقر حجة الإسلام علم الرجال. ومن هناك توجه إلى كاشان حيث بقي ثلاث سنوات في محضر النراقيين.
وكانت هذه الفترة أكثر الفترات الزمنية التي قضاها بشكل متواصل في طلب العلم.

وإذا حسبنا كلّ الفترة التي قضاها متعلماً لما فاقت العشر سنوات. في الوقت الذي نرى فيه آخرين يقضون عشرين سنة أو خمساً وعشرين سنة في التعلم. ويعترض الكثيرون على السيد البروجردي لأنّه لم يدرس على يد أساتذة إلاّ قليلاً، وبرأينا فإن هذا يعدّ من حسناته. لم يقضِ السيد البروجردي أكثر من اثنتي عشرة سنة متعلماً: حوالي سبع سنوات منها في النجف وخمسٍ في أصفهان، ولكن النجفيين لم يقبلوه وقالوا إنّ هذا لم يحضر عند الأساتذة إلاّ القليل وكان ينبغي أن يدرس ثلاثين سنة مثلاً. ولكن لهذا السبب كانت ابتكاراته أكثر من أغلب أولئك العلماء، فقد كان يفكر أكثر من أيّ شخص آخر.

وعلى أيّ حال لا أتصور أن هذه المسألة تقع مورد تردّد. إنّه في التربية والتعليم يجب أن يكون الهدف إعطاء النضج والرشد الفكري للمتعلم والمجتمع. فكل معلم ومربي سواء كان: أستاذاً وخطيباً أو واعظاً يجب أن يسعى لأجل تحقيق قوة التجزئة والتحليل لا أن يصرِفَ كلّ همّه لأجل الحفظ والتلقين. لأنّه في هذه الحال لن ينتج شيئاً.

الخلاصة:

1- أولى الإسلام اهتماماً بالغاً بالتربية والتعليم.
2- والتربية تتوجه إلى تطوير القدرات الفكرية عند المتعلم وبتعبير آخر… إعطائه إمكانية التجزئة والتحليل.
3-العقل خلال العلم. فالعلم يعطي معلومات، أما التعقل فيوصل إلى النتائج السليمة 1.

  • 1. المصدر: مجلة بقية الله، العدد8.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى